ملخص بحث الفلسفة الرواقية ومعالمها:
ظهرت الفلسفة الرواقية - نسبة إلى المدرسة التي أنشأها زينون "264- 336 ق. م" بمدينة أثينا أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، وهي إلى جانب كونها مذهبًا فلسفيًا - فهي كذلك "وقبل كل شيء أخلاق ودين".
كان ظهور الرواقية إيذانًا بتغليب الفكر الشرقي أو حملة هذا الفكر إلى اليونان؛ إذ أن أغلب أنصار الرواقية من الشرقيين.
ويعني الرواقيون بالعناية الإلهية، وتعريفهم لها بأنها "الضرورة العاقلة التي تتناول الكليات والجزئيات"، مع تبرئتها من الشر. أما الشر الذي نراه في العالم فهو ضروري له كضد الخير. إن الله يريد الخير طبعًا، وقد يقتضي تحقيقه وسائل ليبست خيرًا من كافة الوجوه "أما الشر الخلقي أو الخطيئة فيعزونها إلى حرية الإنسان".
ومن المفكرين من يعد أثر الرواقية من خطورة الشأن بحيث امتد أثرها حتى العصور الحديثة. يقول رودييه "إن الإنسانية المفكرة إنما عاشت على المذهب الرواقي حتى أدركت المسيحية ولبثت تتغذى منه بعدها حقبة من الزمان"، بل إن لها سحرًا ما زال يجذب عقول المستنيرين في زمننا هذا.
ولئن كانت مبادؤها تختلف اختلافًا شديدًا عن المسيحية، إلا أن المفكرين المسيحيين أفادوا من أقواها في "الفضائل والرذائل وفي صفات الله وفي العناية الإلهية".
والمتأمل في حياة زينون مؤسس المدرسة ليعثر على مادة مهمة تصلح لدراسة مدى اتصاله بالأفكار الدينية السابقة على ظهور الفلسفة اليونانية - ونعني بها الفكر الشرقي القديم، وكأنه أحياها من جديد في قلب بلاد الإغريق.
إن زينون ولد بجزيرة قبرص، ثم انتقل إلى أثينا، وكان موضع تقدير الأثينيين، حيث رثوه رثاء رسميًا على أثر وفاته بعد أن بلغ من العمر 98 عامًا، مستحقًا لتقديرهم لحثه الشباب على الفضيلة والحكمة، وكان أثناء حياته مثلًا أعلى للأخلاق الكريمة. لقد بلغ هذا الحكيم "من قوة الإرادة وطول الصبر وضبط النفس والعفة والسيطرة على الهوى مبلغًا أدهش معاصريه، فكان الأثينيون يضربون به المثل قائلين "أضبط لنفسه من زينون".
وفي مذهب زينون عنصر مميز عن فلسفة الإغريقيين، فهو يتصل بالفينقيين، - أوتقاليد الساميين - مما جعله يختلف في آرائه وأخلاقه عن فلاسفة اليونان، حتى قيل إنه أقرب إلى مثال النبي الشرقي منه إلى مثال الفيلسوف اليوناني.
وبالمقارنة بين زينون وأفلاطون مثلًا تزداد صحة هذا الاحتمال إذا كان أفلاطون على العكس من زينون - يحاول استخلاص الحقيقة الكامنة فينا بالاستنباط، والدليل العقلي، بينما اتجه زينون في إعلان نتائجه مقتديًا بالأنبياء، إذ يكشف الحقيقة على نقيض طريقة الفلاسفة - بالتأمل والإلهام - ولأن النبي يعلن هذه النتائج باعتباره مرسلًا من عند الله، وكان زينون - في اقتراب نغمة صوته من نغمة الأنبياء "يشعر أنه مكلف برسالة يريد أن يؤديها وأن يأخذ الناس بها كاملة".
الفلسفة أو الحكمة الرواقية:
إن الفلسفة في الرواقية هي "محبة الحكمة ومزاولتها"، ويتضح من هذا التعريف الناحية العملية في هذه الحكمة حيث تشترط العمل والمزاولة. كما يظهر من التعريف التالي أيضًا الاهتمام بالإلهيات، فالحكمة أيضًا هي "علم الأشياء الإلهية والإنسانية".
كذلك يتضح أيضًا أن هدف الرواقيين هو تجاوز نظرة سقراط القاصرة على الأمور الإنسانية، حيث أضافوا إليها النظرة في الأمور الإلهية.
وتتضح أيضًا الصبغة الأخلاقية للفلسفة الرواقية التي تحتل فيها الأخلاق المكان الأول، "فالفلسفة عندهم أيضًا هي ممارسة الفضيلة بحيث يمكن القول بأنها في صميمها مذهب أخلاقي"، أو بعبارة أخرى تجعل من الأخلاق الغاية والثمرة، فالحكمة عندهم تشبه "حقلًا أرضه الخصبة العلم الطبيعي وسياجه الجدل، وثماره الأخلاق".
ومن أجل ذلك أيضًا، سنفصل القول في مذهبها الأخلاقي.
الأخلاق في المذهب الرواقي:
رأينا مما تقدم أن سقراط دعا إلى السعادة القائمة على تغليب العقل على دوافع الشهوة ودواعي الحس، كما عرفنا من اتجاه كل من أفلاطون وأرسطو أنهم يرون أيضًا فكرة السعادة في ضبط النفس.
ثم جاء زينون "270 ق. م" فرأى ضرورة العمل على "قمع الأهواء ووأد الشهوات ومحاربة اللذات والإشادة بحياة الزهد والحرمان، تحقيقًا للسعادة الرواقية".
إن من يدرس الفلسفة في المدرسة الرواقية، يتبين له أن الرواقية في صميمها مذهب أخلاقي، فما هو هذا المذهب وما هي سماته الرئيسية؟
إن ما يدل على أن الأخلاق تحتل المرتبة الأولى في المذهب الرواقي هو تعريفهم للفلسفة ذاتها، فهي عندهم "ممارسة الفضيلة، والفضيلة صناعة واحدة لا تتجزأ، وهي أشرف الصناعات متصلة، وهي تلائم طبيعة البشر ملاءمة خاصة" إن البحث في الطبيعيات والمنطق عندهم أداة لخدمة الأخلاق، والحكمة هي رأس الفضائل وتصدر عن الحكمة الفضائل الرئيسية الأربعة: الاستبصار والشجاعة والعفة والعدالة.
ويوحد أهل الرواقتى بين الفضيلة والسعادة، فالسعادة تنحصر في فضائل عقلية هي (ضبط النفس) و (الاكتفاء بالذات)، و (الحكمة) وقد اكتسبت هذه الفضائل الثلاث صبغة عقلية، وأصبحت الفضيلة عندهم عبارة عن التخلص من الرغبة والتحرر من الانفعال، حيث يظهر معنى الفضيلة بصفة خاصة عند مناداتهم بالاكتفاء بالذات باعتباره فضيلة أساسية من فضائل الرجل الحكيم فإنهم في الحقيقة يشيرون إلى حالة رجل لم يعد يعوزه شيء، أو بعبارة أخرى تنازل وتخلى تمامًا عن كل شيء.
ويظهر لنا وجه الاختلاف هنا بينهم وبين أرسطو، أنه لم يطالب بالعمل على استئصال الشهوات وقمعها، بل اكتفى بإخضاعها لحكم العقل وسيطرته، لأن الشهوات لها مكانها في الطيعة الإنسانية، ووقف الرواقيون على الضد، فاحتقروا الأهواء واعتبروها مخالفة في جوهرها لمنطق العقل مطالبين باجتثاثها وإبادتها بقدر الإمكان.
ومن أجل ذلك وضعوا الحكيم في صورة مثالية إذ أصبح في نظرهم أشبه الناس بشخص معصوم، يتقن كل أفعاله، لا سلطان للأهواء عليه، فلا يتأثر بشيء "لا يحس ألمًا، ولا يستشعر شجنًا، ولا يعرف همًا، ولا يساور قلبه وجل ولا أسف ولا رجاء، هو الغني من غير مال، والملك من غير مملكة، إنه بالإجمال الفرد العالم الذي يحيط بكل فن ويتقن كل صنعة ويعلم الأمور الإلهية والإنسانية جميعًا".
وستتضح معالم الأخلاق عند الرواقيين بصورة أعمق إذا تكلمنا عن الصلة في مذهبهم بين الطبيعة والعقل.
الصلة بين الطبيعة والعقل:
إذا كانت الطبيعة تتجه إلى غايتها بلا شعور في الجماد والنبات، وبالغريزة والشعور في الحيوان، فإنها تتخذ في الإنسان طريقًا آخر هو العقل، فهو أكمل الطرق لتحقيق أسمى الغايات، ووظيفة الإنسان "أن يستكشف في نفسه العقل الطبيعي وأن يترجم عنه بأفعاله، أي أن يحيا وفق الطبيعة والعقل".
ولذا أطلق زينون عبارته المشهورة "الحياة وفقًا للطيعة" ومعناها أولًا أن يعيش الإنسان على وفاق مع العقل، فاستخدم لفظ الطبيعة مرادفًا للقانون الكبير الذي يحكم العالم، ومن ثم فإن سعادة الإنسان تتحقق إذا عاش وفيًا للطبيعة الكلية، ويوضح لنا هذا التفسير العبارة التي قالها أحد الرواقيين: "كل شيء يلائمني إذا لاءمك أيها العالم. وما جاء في الوقت الملائم بالنسبة إليك، فليس متقدمًا ولا متأخرًا بالنسبة إلي، وكل ماجاءتنى به فصولك أيتها الطبيعة فهو تارة عندي، كل شيء يأتي منك، وكل شيء فيك، وكل شيء يعود إليك".
الطبيعة إذن بمعناها في العبارة الآنفة الذكر هي قوانين الوجود، وبمعناها الضيق المتصل بسلوك الإنسان هي العقل، وهما أمر واحد في نظر الرواقيين "لأن العالم يسير وفاقًا لقانون العقل، والإنسان الذي يتبع طبيعته العاقلة يتشبه بالعالم الأكبر، والإنسان لا يملك عصيان قوانين الوجود، ولكنه ككائن عاقل - هو الوحيد الذي يطيع هذه القوانين عن وعي وتعمد وإدراك، ابتغاء تحقيق السعادة".
ولكن كيف تتحقق هذه السعادة؟
وللإجابة على هذا السؤال علينا أن نتبين:
أولًا: الطريقة التي رأوا اتباعها لتحرير النفس من أوهام الأحكام.
ثانيًا: التمييز بين الإحساس الجسماني والموقف النفساني.
وفيما يتعلق بالشق الأول، فإنهم نظروا إلى الشرور نظرة ذات شقين: إحداهما باطنية كالخطأ وزعزعة الإيمان والأسفل والندم والحزن والجهل. وخارجية: كالفقر والرق والمرض والبؤس والإهانة والأذى والتشهير. وعالجوا المشكلة علاجًا عقليًا إذ ذهبوا إلى أن الأشياء الخارجية لاتؤثر بذاتها فينا ولكن المؤثر الحقيقي هو الاستعداد النفسي الذي يجعلنا نحكم عليها لنصفها بالحسن أو القبح بالخير أو الشر، وهذه الأحكام هي سبب شعورنا بالسعادة أو بالشقاء. ولكي نحقق السعادة علينا أن نتحرر من أوهام الأحكام بواسطة إرادتنا. مثال ذلك ما حدث لسقراط الذي أقدم على الموت بلا مبالاة، ويوضح لنا موقفه بقوله "إن الذي يصيب الناس ويؤثر في حياتهم ليست هي الأشياء نفسها، بل آراؤهم عن الأشياء، فلو كان سقراط يرى الموت شرًا لوقع الرعب منه في قلبه، لكن سقراط لم يكن يرى الموت شرًا، فأقدم عليه غير مبال".
ثانيًا:
ولكن الانفعالات المتولدة في النفس أمر خارج عن سلطان وللإرادة أو الأحكام العقلية، كاللذة والألم أوالخوف أو الرجاء، هذا هو الاعتراض الذي شغل الرواقيين، إنهم يقرون بأن الانفعالات النفسية هي حجر عثرة في طريق السعادة، وفي سبيل تذليل هذه العقبة فرقوا بين الإحساس الجسماني الذي لا قدرة لنا عليه، وبين الموقف النفساني الذي نتخذه عقب الإحساس وهو يتصل بقدرتنا وإرادتنا.
ومع الاعتراف بأن الألم يصيب المرء فيحتمله تارة ويضنيه أخرى، فإن هذا يدل على أنه يستطع أن يقرر بحريته إذا كان من اللائق به الاستسلام للألم. ويسري على باقي الانفعالات كالحزن والخوف وغيرها ما يسري على الألم. وعلاج المسألة في نظرهم بالرجوع إلى العقل الذي يوضح لنا أن أحداث الكون كلها ضرورية لأنها خاضعة للقدر، والرجل الفاضل الحكيم هو الذي "يقبل طوعًا كل ما يأتي به القدر من أحداث، حتى المصائب والنكبات، معتقدًا أنها داخلة في النظام الكلي والقضاء الإلهي".
ولعل أفضل مثال يوضح لنا تصورهم لتحقيق السعادة - ما قاله أحدهم وهو أبكتيتوس - وكان يعمل بما يقول كحال أكثر الرواقية، إذ روي عنه أنه قال: "إذا قدر لي أن أموت فلن أجد في الإقدام على الموت ما يدعو إلى التأوه والتألم، وإذا قدر لي أن أزج إلى السجن فلن أذهب إليه باكيًا منتحبًا، وإذا قدر لي أن أعاني مرارة النفي فلن أذهب إلى منفاي مكتئبًا متخاذلًا وإذا طلب إلي طاغية أن أفشي سرًا وهددني بأن يقيدني بالأصفاد، قلت له إنك تقيد ساقي ولا تملك أن تمس إرادتي بسوء وإذا أرسلني إلى السجن أمكنك أن تتحكم في جسدي دون أن تمتد قدرتك إلى نفسي، وإذا أنذرتني بفصل رأسي عن جسدي قلت لك ساخرًا: أنا الإنسان الوحيد الذي يستحيل قطع رأسه".
نقد الرواقية:
إن طريقة حياة الحكيم الضابط لنفسه كما يريدها أهل الرواق تدخل في روعنا صورة كائن صناعي متضخم العقل على حساب الروح والعاطفة، وليس الإنسان كذلك بل هو مزيج من العقل والوجدان والعاطفة، ولا تتحقق سعادته الأرضية إلا بالموازنة بين هذه العناصر لتتحقق الوسطية بينها فينتج عنها السعادة، وهو المنهج الذي رسمه الإسلام بتشريعه المحدد للسلوك الإنساني في دائرة "الحلال" دون "الحرام" مستجيبًا لدواعي الفطرة في الإنسان وضابطًا لنوازعها بلا تفريط ولا إفراط.
ومما يقرب إلينا فهم ميزة الإسلام في هذا الصدد أن نتدبر العبادات ودورها في تقويم السلوك وتربية الضمير، وأهمها الصلاة قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } [البقرة: 45] وفي دور الصلاة واستيعابها لحياة المسلم اليومية يقول الشيخ محمد الراوي "إن القرآن العظيم جعل الإنسان دائمًا مرتبطًا بالواجبات منوطًا بالتبعات وهو يرسم له في يومه الذي هو وحدة زمنية متكررة منهجًا يستوعب اليوم كله، واليوم عنده يبتدئ من مطلع الفجر الصادق حيث تقام الصلاة ويلتقي الناس على ذكر الله، وهو يطلب دائمًا أن يكون اليوم أفضل من الأمس، ومن استوى يومه بأمسه فهو مغبون.
وهكذا فإن المنهج اليومي بالنسبة للصلاة خمس فرائض، أولاها تبعثه من نومه وتوقظه، وآخرها تودعه إلى مرقده وتحفظه، وثلاث تأتي في وسط النهار وآخره، تمتزج مع السعي ونتائجه فتستقيم بها حياة الروح والجسد، وبهذا الامتزاج تنشأ آداب السلوك التي تضبط كل حركة من حركات الإنسان بضابط الخلق ورقابة الضمير".
إن الإسلام إذن بعقيدته وعباداته - وأهمها الصلاة - يصحح لنا الموقف الأخلاقي للرواقية، فقد صورت لنا هذه المدرسة الإنسان الحكيم وكأنه معصوم من الوقوع في الزلل والخطأ فأين نجد هذا الإنسان في حياتنا اللهم إلا في أشخاص الرسل والأنبياء؟ وحتى هؤلاء، فقد خاضوا حياتهم كاملة ولم يكتفوا بحياة التأمل والنظر في النفس وضبطها - بل حملوا الرسالات التي ناءت بها كواهلهم على ثقلها، مع تميزهم أيضًا بأفضل الأخلاق وأحسنها.
خاتمة:
من الحق أن يقال: إن البحث الأخلاقي عند اليونان لم يكن بدءً غير مسبوق بمقدمات تسلم إليه، فإن في حكمة الشرق الضاربة في أغوار الماضي السحيق اتجاهات أخلاقية واضحة المعالم، في تراث مصر والهند والصين واليابان صور مختلفة من التفكير الأخلاقي الأصيل نبتت في ظله فلسفة الأخلاق في أعمق اتجاهاتها.
ونحن نرى أن الرسالات السماوية قامت على الدعوة - بعد معرفة الله تعالى وتوحيده وتطبيق شرعه - إلى مكارم الأخلاق ومعاليها.
لذلك فإن النتائج الأخلاقية الصحيحة للفلاسفة ما هي إلا صدى بعض رسالات الرسل والأنبياء.