هل يمكن اعتبار الصداقة أساس العلاقة مع الغير
4-مطلب المناقشة:
لقد كان لتصور أرسطو هذا لمفهوم الصداقة في دلالتها الأخلاقية، وهو التصور المعبر عنه في السؤال، تأثير كبير على الفلسفات اللآحقة، الحديثة منها والمعاصرة، حيث راهنت هذه الفلسفات هي أيضا على الصداقة في بعدها الأخلاقي، باعتبارها أساس العلاقة الإيجابية مع الغير، نذكر من هؤلاء الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط E. Kant ( 1724-1804 )، الذي أكد في مؤلف له بعنوان: " مذهب الفضيلةDoctrine de La vertu " على أهمية الصداقة كفضيلة، في تأسيس علاقة إيجابية مع الغير، صداقة تتعالى عن كل ما هو نفعي، وتَنشُدُ الشخص في ذاته، بغض النظر عن انتماءاته العرقية والطبقية والدينية، استجابة لنداء الواجب الأخلاقي الكوني الذي يقوم على القاعدة الأخلاقية التالية: " اعمل دائما، حيث تعامل الإنسانية في ذاتك وذات الآخرين، لا كوسائل وإنما كغايات "، وانطلاقا من هذا التصور الأخلاقي للشخص الذي توجهه الإرادة الطيبة، يُعَرِّف كانط الصداقة باعتبارها "اتحاد بين شخصين يتبادلان نفس مشاعر الحب و الاحترام"، إنها صورة مثالية، وتحمل غاية أخلاقية طيبة، لأنها تستهدف تحقيق الخير للصديقين معا، ومن هنا كانت واجبا أخلاقيا يلزم على كل إنسان السعي نحو تحقيقه، وهذا الواجب يستدعي المساواة بين مشاعر الحب من جهة، باعتبارها قوة جذب وتجاذب بين الصديقين، ومشاعر الاحترام من جهة أخرى، باعتبارها قوة دفع وتباعد بينهما، لذلك يجب- يقول كانط- أن تكون مشاعر الصداقة المتبادلة بين الصديقين، متعالية عن كل ما هو نفعي آني مباشر، صدى هذا القول الكانطي الأخلاقي لمفهوم الصداقة، نجده يتردد في العصر المعاصر، بشكل أكثر واقعية مع الباحثة الأمريكية، ذات الأصل الألماني حنا أراندتHannah Arendt )1906-1975(، في مؤلف: " ديريدا وآخرون، المصالحة والتسامح وسياسة الذاكرة "، فهي تمنح الصداقة معاني الحب والصفح والاحترام، وهذه الصداقة ينبغي أن تكون بلا حميمية ولا قرب، إنها تقدير للشخص من خلال المسافة التي يضعها العالم بين الأنا والغير، وهذا التقدير لا ينبغي أن يخضع ـ في نظر حنا آراندت ـ لمزايا يمكن أن تثير الإعجاب، ولا لأعمال يمكن أن تحظى بالإجلال، فالاحترام مثلا كشكل من أشكال الصداقة، ينبغي أن يكون واجبا في حق الجميع، وليس في حق من ينالون الإعجاب والإجلال، هكذا تنتهي حنا آراندت، إلى القول بضرورة الصداقة مع الغير، المؤسسة على الحب والاحترام والصفح، وهذا لا يمكن أن يتم، إلا بالانفتاح على الغير، لأنه ـ تقول حنا آراندت ـ بتقوقعنا على ذواتنا، لن نستطيع الصفح لبعضنا البعض عن أتفه السيئات...
إذن مفهوم الغير الصديق ينطوي في نظر كل من أرسطو وكانط وحنا آراندت، على معنى الحب والاحترام والصفح والتقدير، لكن مفهوم الغير الغريب يوحي على عكس ذلك بمشاعر النفور والكراهية والحقد والعداء، ومن ثم يُفترض أن يواجه الغريب في الواقع العملي بالإقصاء والتهميش والنبذ أو الحرب والتدمير، حين يتشخص في الأجنبي الدخيل أو المهاجر والمختلف ثقافيا أو دينيا، أو عرقيا أو سياسيا، وإذا كان هذا الأمر مقبولا إلى حد ما عند اليونان القديمة المتصارعة بينها وبين خصمها الفرس، التي كانت تعتبرهم برابرة يجب القضاء عليهم، فهل يمكن قبوله في العصر الراهن حيث أصبح العالم قرية صغيرة بفعل التطور الذي عرفته وسائل الاتصال والتواصل ؟ هل يمكن أن يواجه الغير الغريب بالنبذ والإقصاء أم بالاحترام والتسامح؟
عن هذا السؤال أجابت الدراسات المعاصرة حول الغير، ونبهت إلى قيمة هذا الغريب وحذرت من تهميشه ونبذه، لأنه في نهاية المطاف لا يعدو أن يكون سوى الأنا الذي يسكننا، دون أن نشعر بوجوده، وهو ما عبرت عنه الباحثة والناقدة الأدبية البلغارية Julia Kristeva في كتابها : " Etrangers à nous-mêmes "، بقولها : " ليس الغريب-الذي هو اسم مستعار للحقد وللآخر- هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها، ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة، إن الغريب يسكننا على نحو غريب، إنه القوة الخفية لهويتنا والفضاء الذي ينسف بيتنا، والزمان الذي يتبدد فيه وفاقنا وتعاطفنا، ونحن إذ نتعرف على الغريب فينا نوفر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته..."، فالغير الغريب إذن كما حددته كريستيفا ليس ذلك القادم من الخارج والغريب عن الجماعة، الذي يهدد تماسكها وانسجامها، ذلك أن وحدة الجماعة ليست في الواقع سوى مظهر عام عندما ندقق فيها، وينكشف لنا أن الجماعة تحمل في ذاتها بحكم اختلافاتها وتناقضاتها الداخلية، غريبا قبل أن ينفذ إليها غريب أجنبي، إن فكرة الغريب تدل، حسب كريستيفا، على غياب التمتع بمواطنة الإنسان داخل وطنه، أليس المجنون غريب جماعته؟ أليس المهمش كذلك؟ أليس ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان غرباء أوطانهم؟...إن هذه الشرائح المنسية هي الغريب الذي يجب الكشف عنه في ذوات المواطنين، الذين يعتقدون أنهم يتمتعون بجميع شروط المواطنة، و أخيرا أليس الغريب تلك النوازع و الميولات العنصرية، والإثنية و القبلية التي تشكل أنا آخر داخل الأنا، و تجعل من الصعب إقامة علاقة مع الغير.
على طرفي نقيض من هذا التصور الإيجابي للعلاقة مع الغير، الصديق منه أو الغريب، يقف مجموعة من المفكرين رأوا في العلاقة مع الغير، علاقة سلبية، مؤسسة على الصراع والتشييئ، نذكر من هؤلاء الفيلسوف الألماني فردريك هيجل F.Hegel (1770-1831)، والفيلسوف الفرنسي المعاصر جون بول سارتر J.Psartre، بالنسبة لهيجل، فقد ذهب هذا الفيلسوف في مؤلفه:الذي ذهب في كتابه " فينومينولوجيا الروح La phénoménologie de L’esprit " إلى التأكيد على الصراع كأساس للعلاقة مع الغير، إنه صراع من أجل انتزاع الاعتراف بالذات كذات حرة، ذلك أن انبثاق الأنا من حيث هي وعي بالذات، لا يمنح من طرف الغير بشكل سلمي، وإنما ينتزع عبر صراع، يخاطر كل من الوعيين( الأنا والغير) بحياته ويسعى إلى موت الآخر، دون أن يكون في وسع " الأنا " أن تنكر حق " الآخر " في البقاء، لأنها لو فعلت ذلك لما استطاعت أن تظفر منه بالإقرار المنشود أو الاعتراف المطلوب، ويقدم هيحل كنموذج لهذا الصراع مثال " جدلية العبد والسيد، التي ينتزع السيد من خلالها اعتراف العبد له بالسيادة، و أيضا ينتزع من خلالها العبد اعتراف السيد له بالسيادة، حين يضعف السيد ويستكين للراحة، هكذا يحتل الصراع ـ في نظر هيجل ـ صلب العلاقة بين الأنا والغير، وهو ما يفضي إلى علاقة سلبية مع الغير، القول نفسه نلمسه مع الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، في مؤلفه: " الوجود والعدم "، إلى التأكيد أولا على ضرورة الغير لوجود الأنا، وفي هذا يقول: " الغير هو الوسيط الذي لا غنى عنه بيني وبين نفسي "، وعبارة " لا غنى عنه " تعني ضرورة الغير لتشكيل هوية الأنا، لدرجة يصعب معها التمييز بين الأنا والغير، لكن هذه الضرورة، لا تلغي سلبيات الغير، فهو بنظراته –يقول سارتر- يقيد تصرفاتنا ويرصد حركاتنا، بل يخلق لدى الأنا حالات نفسية متوترة، أبرزها حالة الخجل La Honte ، وهذه الحالة السيكولوجية التي تنتاب الأنا أحيانا، لا يمكن الشعور بها إلا بحضور الآخر ونظراته Ses Regards، وفي هذا يقول سارتر:" إن الخجل la Honte في تركيبه الأول هو خجل من الذات أمام الآخر، فأنا خجول من نفسي من حيث أتبدى للغير، فالرابطة بين الأنا والغير، هو قدرته على النظر إليَّ ( Le Regard ) فيحولني إلى موضوع، فأصبح موجودا للغير أتحجر تحت نظرته، ومن هنا ينشأ جزعي وقلقي على نفسي، لأن إمكانياتي مهددة من طرفه، فهو بنظرته إلي يشلني وأنا بدوري أنظر إليه وأشله وأحيله كذلك إلى موضوع، فهناك إذن هوة لا تردم بين الأنا والآخر، يستحيل معها كل التواصل، لأن كل منهما يُشيِّء الآخر ويسلب منه مقوماته كوعي وحرية وتلقائية وفرضية، بهذا المثال وغيره، يحاول سارتر أن يبين أن العلاقة مع الغير ليست بالعلاقة الإيجابية، وهو الأمر دفعه بأن يختم مسرحته " جلسة مغلقة Huis clos"، بعبارة مشهورة لديه، وهي: " الجحيم هم الآخرون، L’Enfer, c’est les autres "، عبارة تجسد بوضوح موقف سارتر من العلاقة مع الغير، التي هي علاقة سلبية.
4 -مطلب التركيب:
يتبين من تحليل ومناقشة الموقف المعبر عنه في السؤال، أن هناك تباينا في فهم مسألة العلاقة مع الغير، فهناك من ذهب إلى تأكيد الطابع الإيجابي لهذه العلاقة، وهناك من ذهب عكس ذلك، إلى التنصيص على العلاقة السلبية مع الغير، المؤسسة على الصراع والتشييئ، لكن رغم المبررات التي يقدمها أصحاب القول بالعلاقة السلبية مع الغير، فإن ما يمكن تأكيده في هذا المجال، هو أن العلاقة مع الغير يجب أن تكون إيجابية، لما لهذا الغير من أهمية قصوى في تشكيل هوية الأنا كشخص، وفي غيابه تعيش الأنا عزلة قاتلة، لذا لا بد من رسم علاقة إيجابية مع الغير، سواء كان هذا الغير قريبا منا أو غريبا عنا، ولا يمكن بالتالي القبول بحكم الفيلسوف الفرنسي سارتر على الغير بأنه جحيم، تحَوَِّّل نظراته الأنا إلى موضوع، كما تحوِّل نظرات الأنا الغير إلى موضوع، " إلا إذا كانت نظرة بعضنا إلى بعض لا إنسانية، وإلا إذا شعر كل منا بأن أفعاله، بدلا من أن تتقبل وتفهم، تخضع للملاحظة مثل أفعال حشرة، كما قال بذلك الفيلسوف الفرنسي ميرلوبونتي، كما أنها ليست من نوع الصراع، كما قال بذلك هيجل، لأن الصراع بين البشر، لا يفضي إلا إلى الهدم والفناء، فالعلاقة الإيجابية مع الغير، هي ما ينبغي أن يطبع الوجود الإنساني، لأن هذا النوع من العلاقة، هو الذي يضمن استمرارية هذا الوجود، وهذه العلاقة لا ينبغي أن تقف عند حدود الغير الصديق، بل ينبغي أن تمتد إلى الغير الغريب، حقا أن الصداقة تعتبر مختبرا حقيقيا لقدرات البشر على الوفاء والصدق، لكن يبقى هذا المفهوم غير ذي معنى إذا ما انحصر في نطاق الغير القريب، وأُقصِىِِ ما عداه من الأغيار، أي الغير الغريب، مع العلم أن الموقف إزاء ما هو غريب، هو أيضا مختبر حقيقي لإمكانيات البشر على تقبل وتفهم المخالف لنا في العقيدة والمأكل والمشرب، إنه اختبار حقيقي لقبول الاختلاف، أي قبول ما يفرق بين البشر، وليس فقط لما يجمع بينهم، لذا فالغير سواء كان فردا أو جماعة أو ثقافة، صديقا أو غريبا، قريبا منا أو بعيدا عنا، هو جزء لا ينفصل عن الذات، يمنحها الوجود والتحقق، لهذا لا بد من إقامة علاقة تواصل معه، علاقة تقوم على أساس الاعتراف المتبادل، مع نبذ كل أشكال التمييز والإقصاء والعنف، لأن الغير في نهاية المطاف، ما هو إلا أنا آخر بشري مثلنا، ووجوده هو نداء للغير من أجل تجاوز النقص الذي يعتري الأنا، ونداء له من أجل حوار حضاري مبني على الاحترام المتبادل والتسامح، بعيدا عن كل أنواع الهيمنة والتسلط.