في تصنيف بكالوريا جميع الشعب بواسطة

مفهوم السنن عند امبرتو ايكو تعريف السنن في الفلسفة بحث حول السنن في الفلسفة مع المراجع 

مقدمة عن السنن 

تعريف السنن 

انواع السنن في الفلسفة 

خاتمة عن السنن في الفلسفة 

السنن عند أمبرتو إيكو 

 

تمهيد: 

 يندرج اسم أمبرتو إيكو Umberto Eco ضمن موسوعة عربية عن الفلسفة الغربية المعاصرة، يقول فيها اليامين بن تومي إنه:« ولد في مدينة ألساندريا بإقليم بييمومنتي ( إيطاليا) سنة 1932 ...، كتب أطروحته حول توما الإكويني ، و حصل على دكتوراه في الفلسفة في 1954، ...، و يعد واحدا من رواد التنظير النقدي في الفكر المعاصر، و هو من كبار السيميائيين الذين يمتلكون مشروعا نقديا أقل ما يقال عنه إنه متعدد الاختصاصات أو الاهتمامات.»(1)، و يبدو اهتمام إيكو جليا بميدان السيميائيات كما يتضح من مؤلفاته التي يقول في مقدمة أحدها:« كما يتبين من الفهرس فإن هذا الكتاب يدرس خمسة مفاهيم سيطرت على جميع النقاشات السيميائية ، و هي العلامة و المدلول و الاستعارة و الرمز و السنن، و ذلك من خلال إعادة النظر فيها من الزاوية التاريخية، و بالرجوع إلى الإطار النظري الذي كنت قد رسمته في أعمالي السابقة ، من ذلك دراسة في السيميائية العامة و القارئ في الحكاية»(2)، و يوضح من جانب آخر بداهة العلاقة بين الفلسفة و السيميائيات باستقراء تاريخ الفلسفة قائلا:« لو قمنا بإعادة قراءة جيدة لأدركنا أن كلا من الفلاسفة الكبار في الماضي ( و في الحاضر) قد قام - على نحو ما- بصياغة سيميائية معينة»(3)، و يحاول هذا البحث في ضوء ما سبق قوله توضيح مفهوم و أبعاد مصطلح سيميائي على قدر كبير من الأهمية و هو السنن في فكر هذا الفيلسوف السيميائي الإيطالي

1) تعريف السنن: 

 نقل المصطلح الغربي Le code إلى العربية بأشكال متعددة منها الشكل الذي أتبناه في هذا البحث و هو السنن، و تعرفه اللسانيات على أنه:« نسق إشارات ( أو علامات أو رموز) موجه بوساطة تواضع قبلي لتمثيل و نقل المعلومة بين مصدر( باث) الإشارات و وجهتها( متلق)،...، و تدعى عملية تحويل الرسالة في صيغتها الجديدة المسننة codée بالتسنين codage أو encodage »(4)، و يظهر من هذا التعريف ثلاثة جوانب محورية تشكل مفهوم السنن ، هي نسقيته و تواضعيته و قبليته الضرورية على عملية التسنين، و فيما يتعلق بكون السنن في مستوى أولي نسقا للعلامات يوضح أمبرتو إيكو أنه دعم فرضية أن:« ما يميز نسقا سيميائيا هو خاصية قابليته للتأويل و ليس خاصيته كأحادي المستوى.»(5)، و يبدو أن هذه القابلية للتأويل لنسق العلامات هو ما يعطي الفرصة للمتواصلين بالتواضع على تأويل معين لكل عنصر من عناصر النسق، و بالتالي قابليته من جهة أخرى للتمظهر ضمن سنن تواصلي يسمح بنقل المعلومة و تمثيلها. 

 و يبدو أن إيكو لا ينفي جانب التواضعية عن السنن بل هو يوكده:« إن مفهوم السنن يستلزم في جميع الحالات مفهوم التواضع أي الاتفاق الاجتماعي - من ناحية- و من ناحية أخرى مفهوم الآلية التي تتحكم فيها قواعد.»(6)، غير أنني أعتقد أن بالإمكان رد هذه الآلية التي تتحكم فيها قواعد إلى عملية التواضع في حد ذاتها بعدﹼ التواضع عملية معقدة في تكوينها على الرغم من البساطة التي قد تبديها في الظاهر، و لكن إيكو يوضح مسألة أخرى تتعلق بالجانب النسقي للسنن ربما كان فيها إضافة مهمة للتعريف اللساني للسنن الوارد سابقا:« منذ أول ظهوره - و كما اتضح في علم الأصوات الوظيفي الجاكبسوني- يظهر السنن لا باعتباره آلية تسمح بالتواصل بقدر ما يظهر باعتباره آلية تسمح بالتحويل بين نظامين.»(7)، إذ يتضح أن النسق السيميائي أي نسق الدوال يرتبط من خلال التواضعية السننية بنسق آخر للمدلولات، و تظهر الإضافة التي يوضحها إيكو في المظهر النسقي الذي يعطيه للمدلولات أيضا، و هكذا ربما اتضح معنى مفهوم التحويل بين نظامين، غير أنني من جانب آخر أعتقد بضرورة رد هذا التحويل بين نظامين إلى صلب الآلية التي تسمح بالتواصل ، إذ لا يمكن الحديث عن تواصل في نظري لولا ذلك الترابط بين نسقي الدوال و المدلولات معا عبر وساطة التواضع الاجتماعي. 

2) السنن و اللغة و النص: 

 يعد السنن واحدا من محاور النموذج اللغوي التواصلي الذي وضعه رومان ياكبسون Roman Jakobson الذي يرى إن :« مسألة حضور و تراتبية تلك الوظائف الأساسية التي نلاحظها في اللغة - مثل التركيز على المرجع، و الشفرة، و المرسل، و المرسل إليه، و اتصالهما، أو أخيرا التركيز على الرسالة نفسها- يجب أن تطبقا أيضا على الأنظمة السيميائية الأخرى.»(8)، غير إن أمبرتو إيكو يناقش مسألة سننية اللغة أي كونها سننا أو نسقا فحسب، حيث إن:« الفكر البنوي الحديث قد أقر بوضوح أن اللغة هي نظام علامات، و اللسانيات هي جزء مكون لعلم العلامات أي السيميائيات.»(9)، و هكذا يقول:« إن السنن في حالة اللسان يعرف اتساعا نتيجة التثبيت الاجتماعي، و يتعلق الأمر بمعدل الاستعمال، فبمجرد ما يستقيم هذا السنن، يتحتم على كل الذوات المتكلمة استعمال نفس العلامات للإحالة على نفس المفاهيم، و التأليف بينها وفق نفس القواعد.»(10)، و ربما فهم من كلامه هذا أن اللغة المتداولة البسيطة تشكل سننا ضيقا يقوم فقط على جزء معين من نسق اللغة، و يبقى الجزء الآخر من اللغة بعيدا عن التداول بسبب فقدانه نسبيا الإجماع التواضعي الذي ربما حظي به لدى الجماعة الناطقة في فترة سابقة ، ليبقى حبيس معاجم اللغة و بعيدا عن التداول العام، و من هنا يتضح لي أن أمبرتو إيكو يركز بشكل واضح على الخاصية التواصلية للسنن حتى و إن صرح بالتركيز أكثر على مفهوم التحويل بين نظامين كما تم التعرض له في موضع سابق من البحث، كما ربما اتضح أيضا أن اللغة و الكلام أيضا بعدﹼه البعد الواقعي للغة، تبقى نسقامن العلامات، و لا يمكنها أن تتحول إلى سنن بشكل كامل إلا في حالة كاملة كلية من التواضع الاجتماعي ، و هي حالة مثالية كما أعتقد. 

 تكلم يالمسلاف Louis Hjelmslev عن ثنائية التقرير/ الإيحاء ( denotation/connotation) في العبارات حيث:« بالنسبة ليالمسلاف فإن دراسة الإيحاء لا تختص بها اللسانيات، فالإيحاءات تظهر كحتوى أو مضمون يستأثر على مستوى العبارة بمجمل لغة التقرير، فإذا كان العمل التقريري لسانيا محضا( في إطار نظرية العلامة لدى سوسير) ، فإن لعبة الإيحاءات تأخذ مستوى أعلى من مستوى اللغة و لا يمكن تحليله لدى يالمسلاف إلا في إطار السيميائيات، بعدﹼها العلم العام للعلامات و ليس علم العلامات اللسانية فحسب.، و يفهم ن هذا الكلام أن التقرير يمثل في المعنى المباشر للعبارة أو النص، بينما يمثل الإيحاء في معاني إضافية يمكن الوصول إليها عن طريق التأويل، و بناء على ثنائية التقرير و الإيحاء يقر رولان بارت Roland Barthes أن:« سيميائيا، كل إيحاء هو نقطة بداية لسنن ما.»(12)، و يناقش أمبرتو إيكو هذه المسألة قائلا:« إذا كان الإيحاء معدودا كظاهرة تخص العلاقة بين سيميائيتين ( إذن بين نسقين) ، فيتوجب علينا تبعا لذلك و بالضرورة القبول أن الإيحاءات مسننة في النسق،...، غير أن بالإمكان تخيل سياقات لا تظهر فيها إيحاءات مسننة، ...، و أيضا تخيل سياقات أخرى تتأسس فيها إيحاءات ليست غير مسننة فحسب، و لكنها تبقى مفتوحة.»(13)، و يبدو لي أن هذه الإيحاءات غير المسننة أو المفتوحة التي تعرض لها ترتبط باللغة الشعرية التي تتميز بالغموض كما يوضح ياكبسون:« الغموض هو خاصية جوهرية لا تقبل التفنيد لكل خطاب مرتكز على ذاته، و باختصار هو لازمة اضطراريةللشعر.»(14)، و ربما تمكنت مما سبق الاستنتاج أن اللغة الشعرية تحفل بإيحاءات غير مسننة اجتماعيا، ينتج عنها عنصر الغموض فيها، و لكنها على الرغم من ذلك ربما امتلكت سننا شعريا شخصيا ينفتح على محاولات التأويل في سبيل تيسير تمثله لفئات المجتمع الأخرى و تسنينه اجتماعيا بذلك. 

3) أنواع السنن

 يميز إيكو بين نوعين من السنن هما السنن القوي و السنن الضعيف، حسب قوة و ضعف إحالة عناصر أنساق العلامات على مدلولاتها ، فيقول مثلا:« عند التدقيق فإن العلامة الضعيفة ليست خالية من ضرورة، إلا أنها عوض أن تحيل على علة واحدة فهي تحيل على مجوعة من العلل، إن وجدت شعلة، فثمة بالضرورة شخص أشعلها و حركها ، إن كان التنفس مضطربا ، فثمة بالضرورة اضطراب في نسق دقات القلب ( مجموعة من الظواهر تنتمي إليها أيضا الحمى).»(15)، و يضيف موضحا هذا التمييز:« على المستوى السيميائي يتم تحديد شروط الضرورة بالنسبة إلى العلامة اجتماعيا، سواء بحسب سنن ضعيف أو بحسب سنن قوي، و في هذا المعنى يمكن أن يمثل حدث ما علامة ثابتة ، حتى و إن لم يكن علميا كذلك، و هذا التدرج في الضرورة السيميائية هو الذي تقوم عليه العلاقات المتبادلة بين المقدم و التالي و يجعلها مساوية للعلاقات المتبادلة بين العبارة و المضمون.»(16)، و يبدو لي من تمييزه هذا أنه يقصد بقوة السنن شفافيته، أي شفافية علاماته، و قد تكلم رولان بارت في كتابه أسطوريات(17) عن مصطلح الشفافية، و أعتقد أنه يقصد به ثبات الإحالة لدى العلامة على مدلولها، و يكون بهذا السنن قويا إذا كانت عناصر نسق علاماته ثابتة الإحالة على مدلولاتها. 

 و من جهة أخرى يورد وحيد بن بوعزيز جردا لأنواع للسنن آخر لدى إيكو لا يبدو لي أنه يقوم على أساس تمييزي صارم يحصر نوعا عن الأنواع الأخرى، و من هذه الأنواع أورد ما يلي : 

« - الأنظمة الشمية: يذهب إيكو إلى أن الشعر الرومنسي قد عرف ما يسمى بشفرة العطور، فمن الناحية العاطفية توجد عطور لها أبعاد و قيم إيحائية بارزة و مضبوطة، لهذا يمكن اعتبارها كما يعتقد بيرس نمطا من الأمارات indices . 

- التواصل اللمسي: تعتبر من مجالات البسيكولوجيا، ساهمت كثيرا في تطوير التواصل بين العميان، و سعت الآن لتشمل السلوكات الاجتماعية مثل القبل و الصفعة و الضرب على الكتف. 

- اللغات الطبيعية: و هي ميدان اللسانيات العامة، حيث تتم الدراسة العلمية للسان بوصف مستوياته الصوتية و التركيبية و الدلالية. 

- بنى الحكي: محاولة لمعرفة أنظمة السرد داخل الخطابات الحكائية، تعدﹼ فيه بحوث بروب و غريماس و بريمون و جينيت و تودوروف بمثابة العمدة الفكرية.»(18)، و ربما كان هذا الجرد على قدر من الأهمية في توضيح مفهوم السنن و أبعاده المختلفة في الحياة الاجتماعية البشرية، غير أن ما يبدو لي مشتركا بين التمييز الأول بين السنن القوي و بين السنن الضعيف، و الجرد الثاني لبعض من أنواع السنن مختلفة، هو ارتباط مفهوم السنن وثيق في فكر أمبرتو إيكو بالخاصية التواصلية لعناصر نسق العلامات، و يبدو تبعا لهذا صعبا الحديث عن سنن دون الحديث عن خاصية تواصلية مرتبطة به قوية كانت أو ضعيفة. 

تابع قراءة المزيد من المعلومات المتعلقة بمقالنا هذا في اسفل الصفحة على مربع الاجابة 

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة
 
أفضل إجابة
السنن عند أمبرتو إيكو

4) السنن و التسنين و الافتراض:

 يحاول أمبرتو إيكو الإشارة إلى الأساس الفلسفي المنطقي لمفهوم السنن و يربطه بمفهوم الافتراض abduction :« و في العادة تتخذ عملية ابتداع السنن الشكل الأكثر جرأة من بين الاستدلالات: الأحكام الاحتمالية أو الافتراض،...، و يصف بيرس الحكم الاحتمالي أو الافتراض بإسهاب في مواطن مختلفة من عمله.»(19)، و يميزه عن الاستنتاج و الاستقراء كما يلي:« فإذا كانت العلامة قائمة على علاقة معادلة صرف فإن رمزها يفك عن طريق عملية استنتاج، مثلما يقع بالنسبة إلى معادلات العلامات الاستبدالية.»(20)، بينما:« إذا كنا لا نعرف دلالة علامة ما و يتحتم علينا أن نعيد تركيبها من خلال تجارب متتالية ، فإن العملية التي نقوم بها هي من النوع الاستقرائي.»(21)، و يعطي إيكو مثالا عن الحكم الاحتمالي أو الافتراض:« فلو صاح بي أحدهم قائلا : / cane/ بنبرة منفعلة ، لكي أفهم إن كان أمرا في اللغة اللاتينية (غن) (أمر بالغناء)، أو سبة في اللغة الإيطالية (كلب) ، ينبغي أن أفترض إطارا مرجعيا لغة من اللغتين، و لا يغير مبدئيا وجود إشارات ظرفية أو سياقية لتوجيهي نحو التعرف على القاعدة من بنية المسار التأويلي.»(22)، و هكذا يصل ختاما إلى محاولة إعطاء تعريف لمفهوم الافتراض:« فالحكم الاحتمالي يمثل إذن رسم نظام أو محاولة مجازفة لرسم نظام من القواعد الدلالية تتخذ في ضوئها علامة ما دلالتها.»(23)، و على الرغم من أن ربطه للسنن بمفهوم الاستدلال الافتراضي يبدو لي موفقا إلى حد بعيد ، غير إن إيكو لا يتوقف عند هذا الحد، و يقوم بتطوير فرضيته هذه بشكل يبدو لي موفقا أكثر لدرجة الإبداع، و هذا من خلال تمييزه لأربعة أنواع من الافتراض بحسب التسنين المكون لها، و هي:

- الافتراض مفرط التسنين hypercodée : و فيه يكون:« القانون معطى بطريقة آلية أو نصف آلية، و ندعوه بالقانون المسنن، و من المهم القبول بأن التأويل عن طريق أسنن (جمع سنن) يحتمل مجهودا افتراضيا و إن كان الأقل قدرا.»(24).

- الافتراض منخفض التسنين hypocodée : و فيه:« يتوجب اختيار القاعدة بوساطة سلسلة من القواعد المتعادلة في احتمالها، و التي تقترحها المعرفة العادية بالعالم.»(25).

- الافتراض المبدع: حيث:« يتوجب اختراع القانون، ...، إذ إن اختراع قانون لن يكون كبير الصعوبة إذا كان الذهن مبدعا كفاية.»(26).

- الافتراض الواصف:« و يتأسس من خلال التقرير إذا كان العالم الممكن الذي تحدده افتراضاتنا الأولية مطابقا لعالم تجربتنا.»(27).

 غير إن ما تجدر الإشارة إليه هنا في نظري يتمثل في التوضيح الآتي لإيكو:« الافتراضات منخفضة التسنين - دون الكلام عن الافتراضات المبدعة- هي آليات مبدعة لعوالم.»(28)، و ربما اتضح هذا بفهم أن الاحتمالات المتعادلة المختلفة التي يتيحها الافتراض منخفض التسنين تسمح بتمثل عوالم ممكنة مختلفة يتوجب على المؤول اختيار الأنسب بينها كقانون يسمح بمعرفة مدلولات العلامات، و ربما فهم من هذا أن القانون المفترض يمثل سننا يفسر مدلولات ظواهر مختلفة في إطار منسجم يمثل العالم الممكن المتمخض عنه، و ربما اتضح بشكل أكبر مفهوم العوالم الممكنة في قول وحيد بن بوعزيز:« إن عملية التعضيد النصي التي يتدخل فيها القارئ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تبين أن عملية فهم النص تتم عن طريق التخمينات و التوقعات، لهذا استثمر إيكو مفهوما من المنطق الجهوي، حاول من خلاله إضاءة الكيفية التي يتوقع بها القارئ النص أثناء سيرورة القراءة، هذا المفهوم هو العوالم الممكنة.»(29)، غير إن هذا المفهوم ربما أمكن ربطه بأشكال أخرى لحدس عالم التجربة غير شكل قراءة النصوص.

 و في موقع آخر يشير أمبرتو إيكو إلى مفهوم التسنين المزدوج:« و لنعد الآن إلى مفهوم التسنين المزدوج، لقد كان شارل جونكس هو أول من بلوره، ...، فيما يخص العمارة ما بعد حداثية... و يمكن فهم هذه الفكرة بطرق مختلفة ، إن العمارة ما بعد حداثية تحيل في أذهاننا على أمثلة كثيرة من النهضة أو الباروك أو نماذج أخرى تؤسس لنماذج ثقافية راقية ضمن مجموع يبدو مع ذلك رائعا و مبتكرا حتى في الاستعمال الشعبي - كثيرا ما يكون ذلك على حساب الوظيفية من خلال استعادة القيمة الديكورية و السينوغرافيا.»(30)، و يبدو لي ممكن الفهم من هذا أن التسنين المزدوج هو تسنين يفترض تداخل نوعين من السنن ضمن الظاهرة العلامية و يسمح بتأويلها بشكلين مختلفين أحدهما عن الآخر دون أن يتعارض واحد منهما مع الآخر من جهة أخرى، و ربما أمكن أيضا من الفهم أنه يتيح ( أي التسنين المزدوج) قراءة العلامة ضمن مستويين متفاوتي التعقيد فيما بينهما للسنن ذاته، ما يفترض قراءتين مختلفتين على الرغم من انسجامهما معا، و هذا يعني وجود نوعين من المؤولين المنسجمين معا فكريا بشكل ما على الرغم من اختلافهم، و في هذا الإطار ذاته ربما يوضح إيكو فيما يخص قراءة الرواية:« لم نستطع أبدا معرفة ما إذا كان من الضروري اعتبار الجيد المنتشر رواية ذات منحى شعبي تستعمل استراتيجيات راقية، أو باعتباره رواية راقية أصبحت شعبية لأسباب غامضة، في الحالة الأولى يجب شرح الظاهرة من خلال مفاهيم التحليل البنيوي للعمل، من قبيل أن اعتماده على الذوق الشعبي يعود إلى كونه يقترح قصة، و قد تكون بوليسية، تجذب القارئ و تمكنه من تجاوز النقط الأسلوبية المقززة بنيويا، و في الحالة الثانية سيكون الأمر من اختصاص علم الجمال، بل من اختصاص علم اجتماع الفن.»(31)، و بالعودة إلى ظاهرة الانسجام بين المؤولين التي سبق أن أشرت إليها، أشيد هنا بإشارة إيكو إلى دخول مفهوم التسنين المزدوج ضمن دائرة اهتمامات علم اجتماع ما، كما أوكد على أهمية ظاهرة الانسجام في تفسير أبعاد هذا المفهوم.

5) السنن و الموسوعة:

 يشير إيكو إلى مفهوم الموسوعة من خلال كلامه عن تلقي الخطاب:«من أجل تحيين البنى الخطابية يواجه القارئ التمظهر الخطي لنسق القواعد المعطاة بوساطة اللغة التي كتب فيها النص و أيضا بوساطة الكفاءة الموسوعية التي تحيل إليها هذه اللغة عادة.»(32)، و ربما أمكنني هذا من فهم الموسوعة على أنها مجمل الإحالات إلى المدلولات التي تشير إليها العلامات اللغوية و تمظهراتها الخطابية، و على الرغم من توكيده أن :« المراد هو أن نكتشف من جديد كيف أن الفكرة الأصلية للعلامة لم تتأسس على التساوي و على التعالق القار و المحدد من قبل السنن و على التكافؤ بين العبارة و المفهوم، بل إنها تتأسس على الاستدلال و على التأويل و على ديناميكية توليد الدلالة.»(33)، و توكيده إضافة إلى ذلك في موضع آخر :« إن عمليات استدلالية - و إن كانت آلية جدا- تتأسس حتى في استعمال العلامات الاستبدالية ( و الشيفرات)، هذه العمليات هي في نهاية الأمر شبيهة بالعمليات التي تظهر في التعرف على الموضوع على أنه توارد لأنموذج معين.»(34)، على الرغم من هذا فإن أمبرتو إيكو يصر على الانتصار لفكرة الموسوعة:« لا يمكن لفكرة القاموس إلا أن تولد- من الداخل- ضرورة الموسوعة، و كذلك الأمر بالنسبة إلى فكرة السنن ، فبعد اعترافنا بأنه لا مفر من التمثيل الموسوعي لا شيء يمنعنا مع ذلك من الالتجاء، قصد التسهيل و في حالات موضعية، إلى أنموذج القاموس، و كذلك الأمر عندما تعترضنا حالات يكفي أن نفسر فيها بعبارات سنن- إن لم نقل بعبارات شيفرة بسيطة- ظواهر سيميائية ابتدائية أو أصبحت ابتدائية في إطار التمظهر المخبري.»(35)، على أن هذا الانتصار لفكرة الموسوعة من قبل إيكو لا يمنعني من التفكير في الثراء الإجرائي الذي تتمتع به فكرة السنن في تأويل العلامات في مقابل الثراء النظري الذي تتمتع به فكرة الموسوعة، و هذا الثراء الإجرائي المرتبط لدي بمفهوم السنن يبدو لي على قدر بالغ الأهمية في الدراسة السيميائية و ما يرتبط بها من تأويل، في الوقت الذي أرى فيه صعوبة التحكم في مجال الموسوعة عند الدراسة التطبيقية للعلامات، و لهذا فإنني على العكس من أمبرتو إيكو أفضل الانتصار لفكرة السنن و أراها واعدة في تأويل علامات الحياة الاجتماعية.

6) خاتمة:

 قادني هذا البحث في مفهوم السنن إلى ملاحظة جملة من المسائل المتعلقة به، و التي أراها على قدر كبير من الأهمية في السيميائيات، كمفهوم السنن في تشكله من جوانب نسقية و تواضعية و قبلية، إلى علاقته باللغة و نسقيتها من جهة، و علاقته بالنص و مستوياته الإيحائية من جهة أخرى، و كذا ارتباط مفهوم السنن في أساسه الفلسفي المنطقي بمفهوم الافتراض الذي يرتبط بدوره بمفهوم التسنين في تطور مثير للتأمل، و ختاما ظهور السنن كمقابل إجرائي عملي إزاء مفهوم الموسوعة الذي يحتفظ بطاقة نظرية كما أعتقد، و كل ما سبق يجعلني ألاحظ سعة و عمق المعرفة السيميائية لدى الفيلسوف أمبرتو إيكو ، كما يجعلني أوكد على العلاقة المتينة القائمة بين الفلسفة و السيميائيات كما أشار إيكو، و يبقى في كل الأحوال هذا البحث محاولة مفتوحة على النقد و الإثراء في سبيل الرقي بالبحث السيميائي في الدرس العربي.

اسئلة متعلقة

...