هل يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية ؟
مقالة
تحليل نص السؤال.. هل يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية
إن التطور الذي عرفته العلوم التجريبية في العصر الحديث نتيجة اعتمادها على التجربة كمصدر لليقين أدى إلى سعي مختلف العلوم الأخرى إلى محاولة تجسيد الدراسات العملية على مختلف ظواهرها، ونجد من بين هذه العلوم العلوم الإنسانية، ونتيجة لاختلاف الظاهرة الطبيعية عن الإنسانية أصبحت مسألة دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية غير ممكنة، وفي مقابل ذلك نجد أن الميزة التي امتازت بها فرضت خصوصية ومنهج منظم يمكن الظاهرة الإنسانية من تحقيق العلم، التناقض الموجود بين التصورين فرض جدلا ونقاشا بين الفلاسفة والعلماء. فهل يمكننا الإقرار بإمكانية خضوع الظاهرة الإنسانية للتحقيق العلمي؟
يرى بعض الفلاسفة والعلماء عدم امكانية دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية، لأنها تمتاز بجملة من الخصائص والمميزات التي تجعلها تختلف عن الظاهرة الطبيعية مما أدى إلى وجود عدة عوائق تصادف الباحث عند محاولته دراسة أي ظاهرة إنسانية فالظاهرة التاريخية مثلا تختلف عن المادية لهذا نجد بعض المفكرين يظنون أن التاريخ لا يمكنه أن يكون علما كغيره من العلوم منهم وليام دلتاي وكروتشه نتيجة العوائق التي تصادف المؤرخ كون الحادثة التاريخية حادثة إنسانية: أي أنها تتعلق بما يحدث للإنسان فقط، لأن التاريخ لا يدرس ماضي الظواهر الطبيعية بل الظواهر الإنسانية من حيث أنها حوادث محددة بالزمكان " الزمان والمكان " لا يمكن تكرارها وملاحظتها من جديد لهذا لا يمكن فصلها عن الزمان والمكان الخاصان بها وإلاّ فقدت صفتها التاريخية. كما أنها حادثة اجتماعية لأن الحوادث الفردية لا تكون تاريخية إلاّ إذا تمكن أصحابها من التأثير على سير الحوادث إما عن طريق إحداث تقاليد جديدة كما يحدث ذلك في الفن والعلم والدين، وإما عن طريق توجيه الجماعات كما يفعل ذلك رجال الحكم والزعماء. أي أن الحادثة لا تكون تاريخية إلاّ إذا شمل صداها مجتمعا بأسره مهما كان هذا المجتمع كبير أم صغير. إضافة إلى أنها حادثة تعرف بطريقة غير مباشرة على خلاف الملاحظة الطبيعية التي تتم بطريقة مباشرة وبالتالي يمكن التجريب عليها، لهذا فهي – الإنسانية – غير قابلة لأن تحدث مرة جديدة بطرق اصطناعية، كما أنها غير قابلة للتعميم ذلك أن المؤرخ لا يمكنه أن التأكد من صحة افتراضه عن طريق التجربة العلمية، أي أنه لا يستطيع مثلا أن يحدث حربا "تجريبية " حتى يتأكد من افتراضاته، وبالتالي استحالة الوصول إلى قوانين عامة، وهذا ما من شأنه أن يمنعنا من التنبؤ بحدوث الظاهرة في المستقبل. وما يؤكد استحالة دراسة الحادثة التاريخية دراسة علمية هو صعوبة تحقيق الموضوعية لأن المؤرخ إنسان ينتسب إلى عصر معين ومجتمع معين، فهو لا يستطيع -على الرغم من اجتهاده في أن يكون موضوعيا - أن يكتب التاريخ إلاّ طبقا للواقع الذي يحياه، فيعيشه من خلال قيمه واهتماماته، وتربيته، فالمواطن الجزائري الذي يكتب عن تاريخ فرنسا قبل 1962 ليس هو المواطن الذي يكتب عنه بعد هذا التاريخ، ذلك أن الماضي يعاد بناؤه، كما أننا لا نستطيع أن نطلب من الاشتراكي أن يعطينا دراسة موضوعية حول الرأسمالية.
ومن جهة أخرى نجد أن الظاهرة الاجتماعية تستحيل فيها أيضا الدراسات العلمية نتيجة الخصائص التي تمتاز بها والتي جعلتها تختلف عن الظاهرة الإنسانية ،هذا ما حاول أن يؤكد عليه العديد من الفلاسفة من بينهم كارل مانهايم ماكس فيبر، وماكس شيلر. فهي ليست اجتماعية خالصة أي أنها تنطوي على خصائص بعضها بيولوجي وبعضها نفسي، لهذا اعتقد البعض أنها تلحق بالدراسات البيولوجية ما دام الذي يميزها لا يختلف كثيرا عن الظواهر الحيوية أو البيولوجية وما يميزها من قوانين تخضع له أيضا ظواهر المجتمع، ويميل البعض إلى أنها تلحق بالظواهر النفسية لأن ما تنطوي عليه من خصائص يتفق إلى حد كبير مع ما تقوم عليه الحادثة النفسية، ويتجه صنفا آخر إلى تفسيرها تفسيرا تاريخيا لأنها لا تكاد تتطور في الزمان والمكان حتى تدخل في الماضي. كما أنها ظاهرة إنسانية لا تشبه الظواهر الطبيعية، فهي مرتبطة بحياة الإنسان ن وهذا الأخير متغير لا تتحكم فيه الحتمية التي تخضع لها الظواهر الطبيعية، وبالتالي لا يمكن ان تخضع للبحث العلمي، كون الإنسان يملك حرية الإرادة في التصرف، فالزوج مثلا في مستطاعه أن لا يطلق زوجته بالرغم من حضور الأسباب المهيئة للطلاق. هذا ونجد أيضا الظاهرة الاجتماعية ظاهرة خاصة وليست عامة لأنها تتعلق بالفرد، وما هو خاص لا يكون قابل للدراسة من الخارج بفضل التحليل والتجريد، وهذا ما يجسد الدراسات الذاتية في الدراسات الاجتماعية، الشيء الذي جعل هذه الأخيرة كيفية لا كمية أي قابلة للوصف لا التقدير الكمي يقول جون ستيوارت ميل :" إن الظواهر المعقدة والنتائج التي ترجع إلى علل وأسباب متداخلة ومركبة لا تصلح أن تكون موضوعا حقيقيا للاستقراء العلمي المبني على الملاحظة والتجربة."
ومن العوائق التي تصادف عالم الاجتماع عند دراسته للظاهرة الاجتماعية نجد صعوبة تحقيق الموضوعية كما هو الشأن في الظواهر الطبيعية، وهنا يؤكد أحد العلماء وهو جبسون gibson على أن تحقيقها الكامل في العلوم
الاجتماعية يعتبر مثلا أعلى يصعب تحقيقه،لأن الباحثين الاجتماعيين هم أفراد يعيشون في مجتمعات يتفاعلون مع أوضاع الحياة القائمة، ويقبلون ألوانا معينة من أساليب التفكير والسلوك القائمة في مجتمعاتهم، ومن ثمة هناك عوامل قد تنأى بهم عن الموضوعية فالمركز الذي يشغله الإنسان والطبقة التي ينتمي إليها والعصر الذي يعيش فيه قد تؤثر فيما يتوصل إليه من نتائج أو فيما يصدره من أحكام، وبالتالي لا يمكن للعلوم الإنسانية أن تتخلص من أثار الإيديولوجيا هذه العوائق كلها أدة إلى استحالة تطبيق التجربة على الظاهرة الإنسانية، الشيء الذي يقف كعقبة أمام الوصول إلى قوانين عامة تفسر حقيقتها، وبالتالي صعوبة التنبؤ.
أما إذا جئنا إلى الحياة النفسية نجد الظاهرة النفسية لها هي الأخرى جملة من الخصائص التي جعلتها تختلف عن الظاهرة الجامدة، الشيء الذي ولد عدة عوائق أمام علماء النفس باعتبار علم النفس علما يعنى بدراسة الحوادث والحالات النفسية للكشف عن قوانينها بعيدا عن النفس كجوهر ميتافيزيقي هذا ما حاول أن يؤكد عليه برغسون ووليام جيمس واهم العوائق التي تصادف الباحث أو الدارس نذكر من أهمها ما يلي :
موضوع غير ثابت ولا يعرف مكان محدد كما هو الشأن في ظواهر الطبيعة، فلا مكان للشعور ولا محل للإنتباه ولا حجم للتذكر أو الحلم، لأن الحوادث النفسية تمتاز بالديمومة والحركية ولا تبقى على حالها في زمنين متواليين لهذا فإن تطبيق المنهج التجريبي عليها يعني القضاء على ديمومتها، ودراستها كماض لا كحاضر، أي كشيء ثابت جام لا ظاهرة حية. كما نجد أيضا الظاهرة النفسية تمتاز بشدة التداخل والاختلاط بحيث يشتبك فيها الإدراك مع الإحساس، والذكاء مع الخيال، والانتباه مع الارادة...، دون نسيان أنها حادثة كيفية لذلك فهي قابلة للوصف ولا يمكن قياسه مثل الظاهرة الطبيعية كأن أقول إن شعوري يقدر بمائة كلم كما أن اللغة المستعملة تعجز أحيانا عن وصف كل ما يجري بداخل النفس، فضلا عن تدخل اللاشعور نتيجة صدور من الفرد سلوكات وأفعال لا يعي أسبابها. إضافة إلى ذلك نجد الظاهرة النفسية حادثة شخصية داخلية لا يعرفها إلاّ صاحبها، كما أننا لا نجد نفس الحالة الشعورية عند جميع الأفراد وحتى إن كان الموضوع المشعور به واحد.
النقد
لكن إذا كانت هذه العوائق – سواء التي تتعلق بالموضوع أو الذات – تحول دون تطبيق المنهج التجريبي في الظاهرة أو الحادثة التاريخية بشكل، فإن هذا لا يعني البتة أنه لا يمكن دراستها دراسة علمية لجعل التاريخ علما قائما بذاته، فإذا كان الاستقراء التجريبي هو الأنسب لدراسة علوم المادة فإن العوائق الإبستيمولوجية التي صادفته أدت إلى استحداث منهج يسمح بدراسة الحادثة التاريخية دراسة علمية، ويعتبر ابن خلدون السباق إلى رسم منهج واضح المعالم يمكننا من دراسة الحادثة التاريخية ويفسرها أي أنه لم يكتف بمجرد نقلها والإشارة إلى مكان حدوثها من عدمه، بل تجاوز ذلك إلى تفسيرها وربطها بعللها أسبابها
يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية بشرط تكييف المنهج العلمي وخطواته وفق ما يتماش مع طبيعة الظاهرة المدروسة ففي الظاهرة التاريخية مثلا نجد ابن خلدون يؤكد على امكانية تحقيق الموضوعية فيها، وذلك من خلال منهج قائم على مجموعة من الخطوات تتجسد من خلالها خطوات المنهج التجريبي والقائمة أساسا على :
أولا : جمع المصادر: والتي يمكن أن نميز فيها نوعين من المصادر التاريخية " إرادية وغير إرادية " فالمصادر الإرادية تتمثل في تلك الأثار والوثائق التي أنجزها الإنسان واحتفظ بها قصد تأريخ الحادثة وإخبار الآخرين بها كالمجلات والصحف، ورسائل القادة التاريخية، ونصوص الاتفاقيات والروايات والمعاهدات المختلفة، والقصص الواردة في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة... إلخ.
المصادر الغير إرادية : تتمثل في مختلف المصادر والآثار التي تركها الإنسان عن غير قصد، والتي فرضتها الحاجة إليها، كالحصن والأبراج والأسلحة التي تم تشييدها من أجل الحماية والدفاع عن النفس أو الدولة والمملكة، إضافة إلى النقود مثلا التي صنعت لتسهيل التعامل والتبادل التجاري.
هذه العملية على حد تعبير ابن خلدون مشروطة بمعرفة طبائع العمران، فلا يصح مثلا أن يتحدث باحث على ما يصطلح عليه اليوم " حرب المدن أو الشوارع " في سياق حديثه عن حروب ومعارك تنتمي إلى العصور الوسطى أو القديمة، بمعنى أن معرفة طبائع العمران طريق إلى معرفة إمكانية حدوث الواقعة من عدمها يقول ابن خلدون في حديثه عن الكيفية التي يتعامل بها مع الخبر:"... إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور و مزلة القدم والحيد عن جادة الصدق..."
02 - مرحلة النقد :
تابع قراءة في الأسفل