الحقيقة كقيمة
3-مطلب المناقشة:
لقد شكلت أطروحة كانط هذه حول قيمة الحقيقة باعتبارها هدفا مطلوبا لذاته، امتدادا لأطروحات فكرية قديمة منها وحديثة، وتُقدِّم سيرة حياة الفيلسوف اليوناني القديم سقراط Socrate(499-399) وفلسفته تصورا أخلاقيا للحقيقة، فلم تكن غاية التفلسف لديه سوى تدريب النفس على اكتساب الفضيلة، وبذلك تتطابق الحقيقة والكمال الأخلاقي، لقد كانت الحقيقة لديه مطلوب لذاتها، تُعاش بصفة شخصية، ولم يكتف سقراط بأن عاش الحقيقة فحسب، بل مات من أجلها، فلا شيء مقدم عن الحقيقة، بما في ذلك حياة المرء نفسها.
نفس المنظور لقيمة الحقيقة كغاية في ذاتها، نجدها لدى الفيلسوف الفرنسي الحديث روني ديكارت René Descartes(1596-1650)، لكن على مستوى فكري معرفي، فقد ذهب هذا الفيلسوف في جل مؤلفاته، أبرزها: مقال في المنهج Discours de la Méthode وأيضا تأملات ميتافيزيقيةMéditations Métaphysiques ، إلى التأكيد على أن الحقيقة تستمد قيمتها من ذاتها وليس من شيء خارج عنها، فالكوجيطو: "أنا أفكر إذن أنا موجود ، je pense donc, je suis, Cogito Ergo Sum " حقيقة عقلية أولى تستمد قيمتها من بداهتها ووضوحها وتميزها عن باقي الأفكار الأخرى، فهي واضحة لأنها تدرك بداهة وبدون واسطة، وكل فكرة بهذه الصفة، من اللازم أن تكون فكرة صادقة، وهي متميزة لأنها لا تختلط مع أي فكرة أخرى غيرها، والكوجيطو كحقيقة أولى، يستوفي صفات البداهة، من هنا كان الكوجيطو حدسا Intuition أي إدراكا عقليا أوليا، يتم دفعة واحدة بطريقة مباشرة، لا يحتاج فيها إلى تحليل عقلي أو اختبار تجريبي، أي لا يحتاج إلى شيء خارج الذات المفكرة، لذا كانت البداهة العقلية الطريق السليم لامتلاك ناصية الحقيقة، والمجال الملائم الذي يتم فيه تحديد قيمة الحقيقة، إذن الحقيقة عند ديكارت، ذات قيمة فكرية، وهي غاية في ذاتها وليس وسيلة، لقد أشاد كانط بهذا الطرح الديكارتي العقلاني لقيمة الحقيقة، واعتبره أساسيا في تشكيل الحقيقة وفي السمو بالإنسان عن باقي الكائنات الأخرى، لكن الوقوف عند حدود العقل –في نظره- دون تحصينه ببعد أخلاقي، قد يفضي إلى تصور سلبي لقيمة الحقيقة ولحامل هذه الحقيقة وهو الإنسان، فالوقوف عند حدود العقل لم يمنح الإنسان ولا الحقيقة التي ينشدها إلا قيمة نفعية خارجية، وبالتالي السقوط في أحضان الاتجاه الحسي المادي الذي لا يرى في الحقيقة إلا جانبها النفعي، بحيث يصبح الكذب وفق هذا المنطق حقيقة، ما دام يحقق منفعة، من هنا يـأتي ربط كانط قيمة الحقيقة في قول الصدق، الذي يعتبر في نظره، واجبا أخلاقيا، واجبا خاليا من الغرض، لأنه غاية في ذاته وليس وسيلة توصل إلى المنفعة، فالعمل الأخلاقي لا يتوخى من القيام به إلا الواجب لذاته، هكذا يكون كانط قد رسم للحقيقة طريقها السليم بعيدا عن كل توظيف ذاتي نفعي.
لكن، بالرغم من أهمية ما قدمه كانط من تصور إيجابي لقيمة الحقيقة، بحيث خَلَّصَ الحقيقة من الاستغلال لمصالح ذاتية آنية، فقد تعرض تصوره هذا للحقيقة في علاقتها بالصدق، إلى انتقاد العديد من المفكرين، محدثين منهم ومعاصرين، نذكر منهم أولا الكاتب والمحلل السياسي الفرنسي Benjamin constant بنيامين كونسطان ( 1776-1830)، الذي انطلق من تصور حقوقي لقيمة الحقيقة، منتقدا في ذلك تصور كانط الأخلاقي لقيمة الحقيقة، ففي مؤلف له بعنوان:
" Des Réactions politiques " ( 1797 )، يذهب كونسطان إلى القول: " إذا ما اخذ المبدأ الأخلاقي الذي يكون بموجبه قول الحقيقة واجبا أخلاقيا، بمعناه المطلق والمعزول، فإنه يجعل من المستحيل قيام أي مجتمع، دليلنا على ذلك النتائج المباشرة التي استخلصها فيلسوف ألماني( يقصد كانط)، من هذا المبدأ الأول، فقد ذهب هذا الفيلسوف إلى حد الزعم، بأن من يكذب على مجرمين يسألونه عما إذا كان صديقه الذي يتعقبونه ملتجئا في منزله، يكون قد ارتكب جريمة "، ويدحض الفيلسوف الفرنسي هذا المبدأ على النحو التالي: " قول الحقيقة واجب، لكن ما هو الواجب ؟ إن فكرة الواجب لا تنفصل عن فكرة الحقوق: فالواجب هو ما يناظر في كائن بشري حقوق كائن بشري آخر، فحيث لا توجد حقوق لا توجد واجبات، إن قول الحقيقة ليس إذن واجبا إلا نحو من لهم الحق في معرفة الحقيقة، والحال أنه ما من إنسان له الحق في حقيقة مضرة للغير" ، إذن كونسطان يرفض أولا اعتبار الحقيقة كصدق واجبا أخلاقيا مطلقا، فهناك حالات استثنائية يمكن أن يصبح معها الكذب واجبا من الناحية الإنسانية، وذلك من أجل إنقاذ حياة شخص وتجنيب الضرر بالغير، ثانيا يرى كونسطان أن الواجب لا معنى له بدون وجود حق، فالحقيقة التي تحرم الأخر الحق في الحياة مثلا، لا قيمة لها، فالحقيقة إذن في نظر كونسطان، لا تكون واجبا بالنسبة للذات إلا إذا لم تحدث ضررا بالنسبة للغير، وهكذا ينزع كونسطان عن الحقيقة طابعها المطلق والكوني، ويضفي عليها طابعا نسبيا، فهو يريد للحقيقة أخلاقا مرنة وقابلة للتطبيق في مختلف الحالات، أي وسيلة لتحقيق أغراض عملية وليس غاية في ذاتها، وهو القول نفسه الذي يمكن لمسه مع الفيلسوف الأمريكي المعاصر وليام جيمسWilliam James(1842-1910)، فقد ذهب هذا الفيلسوف في كتابه
" Le Pragmatisme "، إلى التأكيد على أن الحقيقة لا تكتسي قيمة إلا إذا حققت منفعة سواء على المستوى الفكري أو العملي، فهي إذن مجرد وسيلة تتحقق من ورائها أغراض عملية وليست غاية في ذاتها، ذلك أن امتلاك الإنسان لأفكار صحيحة، يعني امتلاكه لأدوات ثمينة تسمح له بالقيام بأعمال ذات مردودية وإنتاج خصب، فوجوب اكتساب الحقائق إذن، يستمد مبرره من النتائج الممتازة التي يجنيها الإنسان حين يتعاطى للبحث بشكل دؤوب عن الحقيقة، بهذا القول تصبح الحقيقة كواجب أخلاقي ينشد لذاته، هو –في نظر جيمس- مجرد تصور لفظي فارغ من كل معنى، بينما تتيح التجربة للصدق فرصة التمتع بما في الواقع من حيوية أصالة وثراء، بهذا التصور العملي للحقيقة يكون جيمس قد وقف بجانب فلسفة الفيلسوف الألماني نيتشه F.Nietzsche(1844-1900) في نقدها للفلسفات السابقة ولمفهومها حول الحقيقة، وأيضا بجانب فلسفة الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشل فوكوM.Foucault(1926-1984).
فقد ذهب نيتشه في مؤلفه: " Le livre du Philosophie "، إلى ربط الحقيقة بالعالم الأرضي، وبحاجات الإنسان الحيوية، ورفض كل تصور فلسفي يتعالى بالحقيقة عن مجالها الطبيعي والإنساني، لأن الحقيقة في نظره، ما هي في واقع الأمر إلا إضفاء صورة الإنسان على الأشياء، أي طبع الصور الإنسانية على العالم الخارجي، بحيث يصير العالم برمته مجالا مكبرا لغايات الإنسان وأمانيه، فجوهر الحقيقة ليس في كون شيء من الأشياء حقا، وإنما أن يعتقد الإنسان أنه حق، فالنفع إذن، هو المعيار الفاصل بين كون الأشياء حقا أو غير حق، والنفع هو الحياة، لذا لا يمكن تصور حقيقة خارج الحياة، وكل تصور للحقيقة خارج إطار الحياة الإنسانية في قوتها وعنفوانها يعتبر وهما.
أما ميشل فوكوM.Foucault ، فهو يعتبر الحقيقة " من هذا العالم تنتج فيه بفعل إكراهات متعددة، ولها في هذا العالم سلطة ذات تأثير منتظم..."، معنى هذا أن قيمة الحقيقة تتحدد كوسيلة لتحقيق السلطة، فلا يمكن فهم الحقيقة خارج منظومة السلطة، فليس –يقول فوكو-نشاط الذات العارفة هو الذي ينتج المعرفة الحقيقية، مفيدة للسلطة ومتمردة عليها، بل إن السلطة والعمليات والصراعات التي تخترقها والتي تتشكل منها، هي التي تحدد الأشكال والمجالات الممكنة لمعرفة الحقيقة، من هنا -يقول فوكو- يمكن أن نفهم سبب هيمنة الحقيقة العلمية في المجتمعات المعاصرة، نظرا للسلطة التي أصبح يملكها الخطاب العلمي بالمقارنة مع الخطاب الديني والفلسفي.
4-مطلب التركيب:
يتبين من تحليل ومناقشة موقف كانط من قيمة الحقيقة، إنه موقف جدير بالتقدير والاحترام، فربط الحقيقة بالواجب الأخلاقي المنزه عن كل مصلحة ذاتية آنية- وخاصة في عصرنا الراهن، الذي أصبح فيه منطق المنفعة والربح هو المتحكم في مسار الأحداث الإنسانية- يبقى موقفا فكريا ذا بعد إنساني رفيع، وهو يرى أن الكذب ولو على إنسان واحد يضر بالإنسانية جمعاء، لأنه يحطم أساس التواصل والتفاهم والاحترام المتبادل بين البشر، لهذا تظل المواقف التي تجعل الحقيقة كوسيلة لتحقيق المنفعة، مواقف في حاجة إلى نظر، وأخذها بحذر، ذلك أن الوقوف عند حدود منطق المنفعة قد يفضي إلى نسبية الحقيقة واختلافها باختلاف مصالح الأفراد والجماعات ورغباتهم، فباسم المنفعة، يمكن للإنسان أن يرتكب المظالم ضد الآخرين وينتهك حقوقهم وكرامتهم، لكن لا يجب أن يفهم من قول كانط أن الحقيقة كصدق أو صواب أو حق، لا تخلو من منفعة، فالصدق كقيمة أخلاقية لا يمكن أن يكون كذلك ما لم يحمل في ذاته بعدا إيجابيا نفعيا للإنسان، فالمنفعة ليست عيبا، لكن العيب هو الاحتكام لها لتحديد معنى الصواب أو الصدق أو الحق، لأن سلوكا من هذا النوع يمكن أن يسقطنا في الذاتية والأنانية المفرطة، ويصبح الكذب في هذه الحالة ذا قيمة أخلاقية ما دام يحقق منفعة للبعض، وما يجعل للمنفعة قيمتها في حياة الإنسان، هو أن الفاعل الأخلاقي الذي تكلم عنه كانط، ليس فقط كائنا عاقلا، بل أيضا كائن راغب، لذا فرغبات الإنسان وميوله، لا تنفصل عن بحثه في الحقيقة، فما الغاية من البحث في الحقيقة إذا لم يكن وراءها أهداف عملية تخدم الإنسان ولا تضره ؟
كما أن الحديث عن الحقيقة كسلطة ليس عيبا، لأن السلطة كقوة معنوية أو مادية تحمل في ذاتها بعدا إيجابيا إذا أحسنَّا استخدامها في الاتجاه الذي يخدم الإنسانية، لكن تصبح قاتلة في الاتجاه المعاكس، فلا يمكن أن ننكر ما للحقيقة من سلطة معنوية ومادية، لكن ما يَسُوء لهذه السلطة هو الاستخدام السيئ الذي يضر بالآخرين، وهذا ما نبه إليه ميشل فوكو حيث قال: " لا يتعلق الأمر بتخليص الحقيقة من كل منظومة من منظومات السلطة-إذ أن ذلك وهم، لأن الحقيقة هي ذاتها سلطة- وإنما يتعلق الأمر بإبعاد سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة( (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ) التي تشتغل داخلها لحد الآن"، فالبحث عن الحقيقة من طرف الإنسان إذن، ليس غاية في ذاته، وإنما وراءه أهداف عملية، أهداف ينبغي تحصينها ببعد أخلاقي، الذي يقوم على " مبدأ الاحترام "، احترام الإنسان لذاته وللآخرين ولمحيطه البيئي، وفي غياب هذا البعد، يصبح البحث عن الحقيقة، بحثا عن ما يهدد الحقيقة والوجود الإنساني بالفناء.