خطبة اول جمعة شوال 1445 خطبة عن الاستقامة والمداومة على الطاعة بعد رمضان
خطبة الجمعة القادمة بتاريخ 3 شوال 1445ه الموافق 12 أبريل 2024م تحت عنوان «الاستقامة والمداومة على الطاعة بعد رمضان »
اقرأ في هذه الخطبة
أولا : ثم استقاموا
ثانياً : من عاش علي شيء مات عليه فسالوا الله الثبات وحسن الخاتمة
ثالثاً : الخوف من سوء الخاتمة
رابعاً : من أسباب وقاية سوء الخاتمة
الخطبة الأولي
الحمدُ لله، الحمدُ لله رب العالمين، له الحمدُ في الأولى والآخرة، وله الحكمُ وإليه تُرجَعون، خلقَ الخلقَ على غير مِثالٍ سبَق، وقدَّر المقاديرَ بعلمِه وقُدرتِه، ومضَت سُنَّتُه، ونفَذَت مشيئتُه، وعلَت كلمتُه، سبحان ربِّي لا يُسأل عما يفعَل وهم يُسألُون، أحمدُ ربِّي وأشكُرُه على نعمِه كلِّها ما علِمنا منها وما لم نعلَم.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمدُ تعالى عما يُشرِكُون، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ رحمةً للعالَمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه الذين كانوا بهديِه يهتَدون.
أما بعد:
فاتَّقُوا اللهَ تعالى؛ فتقوَى اللهِ سعادةُ الدنيا، وفوزُ الآخرة، فما سعِدَ إلا المُتَّقُون، وما خسِرَ إلا المُعرِضُون
عباد الله : جاء رمضان... وبسرعة ذهب رمضان.
وكان ولابد أن يأتي هذا السؤال، وهو ماذا يجب علينا بعد رمضان، بل وبعد كل موسم من مواسم الطاعة؟
ماذا بعد شهر الجد والاجتهاد والتشمير، بعد أن كان القرآن حياتنا، والصلاة والوقوف بين يدي الله لذتنا، وذكر الله غذاءنا؟
ماذا بعد الصيام والقيام والذِكْر والطاعات والدعوات والصدقات وقراءة القرآن وفعل الخيرات؟
أولا : ثم استقاموا
إنها الاستقامة.. إنها العلاج، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}(فصلت:30).
أن تعتصم بالسير على الطريق، وأن لا تحيد عنه.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ألا تشرك بالله شيئًا، يريد الاستقامة على محض التوحيد
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: استقاموا: أخلصوا العمل لله
وقال علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهما: استقاموا: أدوا الفرائض وغاية "الكرامة لزوم الاستقامة"
فالاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم ، وهو الدين القيم ، من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة ، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها ، الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها ، الظاهرة والباطنة .
وهي وسط بين الغول والتقصير ، وكلاهما منهي عنه شرعاً.
فيحاول العبد أن يستقيم على طاعاته بعد رمضان، وألا ينقطع عنها كليا
وعن سُفيان بن عبد الله قال: قُلتُ: يا رسول الله! قُل لي في الإسلام قولًا لا أسألُ عنه أحدًا غيرَك، قال: «قُل: آمنتُ بالله، ثم استَقِم» (رواه مُسلم
ثانياً : من عاش علي شيء مات عليه فسالوا الله الثبات وحسن الخاتمة
قال الحافظ بن كثير: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شىء بعث عليه.
إنها قمة العدل وقمة الرحمة.
ويقول الإمام ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله: (ما علم على الإطلاق أن رجلاً ختم له بسوء الخاتمة وقد استقام ظاهره مع باطنه، ولا يختم بسوء الخاتمة -والعياذ بالله! - إلا لمن اختلف باطنه مع ظاهره)، فمن اختلف باطنه مع ظاهره فهو الذي يختم له بسوء الخاتمة.
فاستقم على طاعة الله، واعلم بأن الاستقامة على عبادة الله جل وعلا فضلها عظيم في الدنيا قبل الآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 – 32]. استقم أيها الموحد لله استقم على العبادة استقم على الطاعة، لا ينبغي أن يروغ المؤمن روغان الثعالب، إن المؤمن مستقيم ثابت على طاعة الله، حتى ولو زلت قدمه بالمعصية، فإنه سرعان ما يجدد الأوبة والتوبة إلى الله جل وعلا: (قل: آمنت بالله ثم استقم
ولله در القائل: أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو أن الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هي
أيها الغافل! أيها اللاهي! أيها الساهي! يا من ستترك القرآن بعد رمضان! يا من ستترك الصلاة في جماعة بعد رمضان! يا من ستتحلل من الأوامر بعد رمضان! يا من ستتخلي عن الحساب بعد رمضان! يا من ستضيع قيام الليل بعد رمضان! يا من ستترك الأذكار! يا من ستتخلي عن الصدقة في سبيل العزيز الغفار!
ان العَبدُ مَأمورٌ بالطّاعاتِ وَمَنهِيٌّ عن المحرَّماتِ في جميعِ الأوقات، ولكنَّه يتأكَّد الأَمرُ بالعمَلِ الصَّالح في آخِرِ العُمر وفي آخِرِ ساعةٍ من الأجَل، ويتأكَّد النَّهيُ عن الذّنوبِ في آخرِ العمرِ وفي آخر ساعةٍ من الأجَل؛ «إِنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ، فِيمَا يَرَى النَّاسُ، عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ، عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا» رواه البخَاريّ
وللحديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) الشيخان
والحديث رواه الترمذي وأحمد وهو حديث صحيح (إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه).
والحديث الذي رواه احمد قَالَ سُرَيْجٌ وَلَهُ صُحْبَةٌ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا، عَسَلَهُ» ، قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ: «يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ»
كان عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير إذا صلى رفع يديه قائلا: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة. فقال أبناؤه: وما هي الميتة الحسنة؟
فبينما عامر بن عبد الله بن الزبير على فراش الموت يجود بأنفاسه وأهله حوله يبكون، فبينما هو يصارع الموت سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب ونفسه تحشرج في حلقه وقد اشتدّ نزعه وعَظُم كربه، فلما سمع النداء قال لمن حوله: خذوا بيدي، قالوا: إلى أين؟! قال: إلى المسجد، قالوا: وأنت على هذه الحال؟! قال: سبحان الله! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه؟! خذوا بيدي، فحملوه بين رجُلين، فصلى ركعة مع الإمام ثمّ مات في سجوده، نعم مات وهو ساجد.
…تزود من التقوى فإنك لا تدري……إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
…فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا …وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
…وكم من صغار يرتجى طول عمرهم…وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
…وكم من عروس زينوها لعرسها…وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
…وكم من صحيح مات من غير علة …وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
…فمن عاش ألفا وألفين إنه …لابد من يوم يسير إلى القبر
ثالثاً : الخوف من سوء الخاتمة
والخوف من سوء الخاتمة هو الذي طيش قلوب الصديقين وأرهب أفئدتهم في كل حين – ولماذا لا يخافون من ذلك، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، كم سمعنا عمن آمن ثم كفر، وكم رأينا من استقام ثم انحرف، ولذلك كان صلوات الله وسلامه عليه كثيراً ما يردد: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).
عنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ ". قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: " نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا "
لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه: يا أبتاه، إنك كنت تقول: ليتني ألقى رجلاً عاقلاً لبيبًا عند نزول الموت يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي، فقال: يا بني، والله لكأن على كتفي جبل رَضْوَى، وكأن غصن شوك يُجذب من قدمي إلى هامَتي، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما.
وقد ذكر علماؤنا أن الشيطان يأتي الإنسان في تلك اللحظات الحرجة في صورة أبيه أو أمه أو غيرهم ممن هو شفيق ناصح له، ويدعوه إلى اتباع اليهودية أو النصرانية أو غيرها من الأديان الباطلة، فهناك يزيغ قلب من حقت عليه الضلالة.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي الخرقة لأشدّ لحييه، فكان يغرق ثم يفيق ويقول بيده: لا بعدُ لا بعد، فعَلَ هذا مرارًا، فقلت له: يا أبت، أي شيء ما يبدو منك؟! فقال: إن الشيطان قائم بحذائي عاضّ على أنامله يقول: يا أحمد، فُتَّني، وأنا أقول: لا بعدُ، حتى أموت.
ولذا كان ابن عمر إذا قرأ قول الله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] بكى وأبكى ودعا للأموات وقال: اللهم لا تَحُل بيني وبين ما أشتهي، قالوا: وما تشتهي؟! قال: أن أقول: لا إله إلا الله.
أما عن أحوال المقصرين عند الموت فقد ذكر القرطبي أن أحد المحتضرين لما نزل به الموت واشتد عليه الكرب اجتمع حوله أبناؤه يودِّعونه ويقولون: قل: لا إله إلا الله، فأخذ يشهق ويصيح، فأعادوها عليه فصاح بهم وقال: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني ازرعوا فيه كذا، والدُّكان الفلاني اقبضوا منه كذا، ثمّ لم يزل يردّد ذلك حتى مات. نعم، مات وترك بستانه ودكانه يتمتّع بهما ورثته وتدوم عليه حسرته.
وذكر ابن القيم أن أحد تجار العقار ذُكّر بلا إله إلاّ الله عند احتضاره فجعل يردّد: هذه القطعة رخيصة، وهذا مشترٍ جيّد، وهذا كذا وهذا كذا، حتى خرجت روحه وهو على هذا الحال، ثم دفن تحت الثرى بعدما مشى عليه متكبّرًا قد جمع الأموال وكثر العيال فما نفعوه في قبره ولا ساكنوه.
قال ابن القيم: واحتضر رجل ممن كان يجالس شرّاب الخمور، فلما حضره نزعُ روحه أقبل عليه رجل ممن حوله وقال: يا فلان يا فلان، قل: لا إله إلا الله، فتغير وجهه وتلبّد لونه وثقل لسانه فردّد عليه صاحبه: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، فالتفت إليه وصاح: لا، اشرَب أنت ثم اسقني، اشرب أنت ثم اسقني، وما زال يردّدها حتى فاضت روحه إلى باريها. نعوذ بالله من سوء الخاتمة، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مّن قَبْلُ.
يتبع في الأسفل