خطبة مكتوبة عن نهاية السنة الهجرية 1444 خطبة عن الاعتبار بمرور الزمن ملتقى الخطباء 2023
خطبة جمعة 25 ذي الحجة 1444هـ 14 يوليوز 2023م بمناسبة نهاية السنة الهجرية تحت عنوان
[وُجُوبُ تَقْصِيرِ الْآمَالِ، قَبْلَ حُلُولِ الْآجَالِ]
من اعداد: رشـيــد الـمـعاشــي
اَلْخُطْبَةُ الْأَولَى
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا، جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، وَأَشْهَدُ أَنْ لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ تَسْلِيمًا كَثِيراً، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ أَزْمِنَةً وَدُهُوراً.
أَمَّا بَعْدُ فَيَا أَيُّهَا الْإِخْوةُ الْمُسْلِمُونَ:
قَـالَ اللَّهُ تَعَـــــالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ... فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ، وَيُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ، وَيُشَيِّبَانِ الصِّغَارَ، وَيُفْنِيَانِ الْكِبَارَ، وَهِيَ رِسَالَةٌ وَاضِحَةٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ، عَلَى حَتْمِيَّةِ تَصَرُّمِ الْأَعْمَارِ، وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ، وَبِمُنَاسَبَةِ قُرْبِ انْصِرَامِ عَامٍ هِجْرِيٍّ شَهِيدٍ، وَاسْتِقْبَالِ عَامٍ هِجْـــــرِيٍ جَدِيدٍ، سَيَكُونُ عُنْوَانُ خُطْبَتِنَا لِهَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ السَّعِيدِ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ: وُجُوبُ تَقْصِيرِ الْآمَالِ، قَبْلَ حُلُولِ الْآجَالِ، وَسَيَنْتَظِــــمُ كَلَامُنَا حَوْلَ هَذَا الْعُنْـــــوَانِ فِي ثَلَاثَةِ عَنَاصِرَ:
الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: حَتْمِيَّةُ الْمَوْتِ، فَالْمَوْتُ وَالِانْتِقَالُ مِنْ دَارِ الْعَمَلِ إِلَى دَارِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، حَقِيقَةٌ كُبْرَى لاَبُدَّ أَنْ تَسْتَقِرَّ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ وَالْوِجْدَانِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مَوْقُوتَةٌ مَحْدُودَةٌ بِأَجَلٍ وَآنٍ، ثُمَّ تَأْتِي نِهَايَتُهَا حَتْماً رَغْمَ أَنْفِ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَيَمُوتُ الصَّالِحُونَ وَأَصْحَابُ الْأَهْدَافِ الْعَالِيَةِ، وَيَمُوتُ الطَّالِحُونَ وَالتَّافِهُونَ الَّذِينَ لَا يَعِيشُونَ إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ، فَلَا الْقَوِيُّ يَعْتَصِمُ مِنَ الْمَوْتِ بِقُوَّتِهِ، وَلَا الْعَزِيزُ يَرْتَفِعُ عَنْهَا بِعِزَّتِهِ، قَضَاءٌ وَفَصْلٌ سَبَقَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ، وَحُكْمُ عَدْلٍ حَكَمَ بِهِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، يَقُول جَلَّ جَلَالُهُ: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ... وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. وَرَوَى الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَه اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ... قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ. فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ... فَأَيْقَنَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالْهَلَاكِ. وَالْمَوْتُ لَا يَعْرِفُ صَغِيراً وَلَا كَبِيراً، وَلَا مَرِيضًا وَلَا صَحِيحًا، وَلَا يَعْرِفُ إِلَّا مَنْ حَلَّتْ مَنِيَّتُهُ وَدَنَتْ سَاعَتُهُ وَقَامَتْ قِيَامَتُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.
الْعُنْصُرُ الثَّانِي: طُولُ الْأَمَلِ وَحُكْمُهُ، فَطُولُ الْأَمَلِ هُوَ: الِاسْتِمْرَارُ فِي الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالِانْكِبَابُ عَلَيْهَا مَعَ كَثْرَةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي الْأَمَلِ سِرٌّ لَطِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْلَا الْأَمَلُ مَا تَهَنَّى أَحَدٌ بَعِيشٍ، وَلَا طَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَشْرَعَ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ مِنْهُ الِاسْتِرْسَالُ فِيهِ، وَعَدَمُ الِاسْتِعْدَادِ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ، فَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُكَلَّفْ بِإِزَالَتِهِ، وَسَبَبُ طُولِ الْأَمَلِ الْجَهْلُ وَحَبُّ الدُّنْيَا. وَقَدْ ذَمَّ الشَّرْعُ الْحَكِيمُ طُولَ الْأَمَلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً، فَقَالَ: مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اِسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ كَعَابِرِ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.
نَفَعَنِي اللَّـهُ وَإِيَّاكُمْ بِكِتَابِهِ الْـمُبِينِ، وَبِسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى الْكَرِيمِ، وَأَجَارَنِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ عَذَابِهِ الْمُهِينِ، وَجَعَلَنِـي وَإِيَّاكُمْ مِنَ الذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ آمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَليُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرينَ، صَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُمْ وَسَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ فَيَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ:
الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: تَقْصِيرُ الْأَمَلِ عِنْدَ السَّلَفِ، فَقَدْ عَلِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ... فَتَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّاهِدِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا فِي جِنَازَةٍ بِالْكُوفَةِ، وَخَرَجَ فِيهَا الْإِمَامُ دَاوُدُ الطَّائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَانْتَبَذَ مَقْعَدَ نَاحِيَةٍ وَهِيَ تُدْفَنُ، فَجِئْتُ قَرِيبًا مِنْهُ، فَتَكَلَّمَ، فَقَالَ: مَنْ خَافَ الْوَعِيدَ، قَصُرَ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، وَمَنْ طَالَ أَمَلُهُ، ضَعُفَ عَمَلُهُ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَشْغَلُكَ عَنْ رَبِّكَ فَهُوَ عَلَيْكَ مَشْئُومٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، إِنَّمَا يَنْدَمُونَ عَلَى مَا يُخَلِّفُونَ، وَيَفْرَحُونَ بِمَا يُقَدِّمُونَ، فَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْقُبُورِ نَادِمُونَ، أَهْلُ الدُّنْيَا عَلَيْهِ يَقْتَتِلُونَ، وَفِيهِ يَتَنَافَسُونَ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ الْقُضَاةِ يَخْتَصِمُونَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ -، وَقَصِّرُواْ آمَالَكُمْ فِي الدُّنْيَا بِتَذَكُّرِ الْمَنُونِ، وَاسْتَعِدُّواْ لِيَوْمٍ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُونَ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
اَلدُّعَاءُ