مقولة تجمع بين الشعور واللاشعور المشكلة الثالثة: في الشعور واللاشعور
المشكلة الثالثة: في الشعور واللاشعور
المقالة الأولى: الجدل حول أساس الحياة النفسية بين الشعور واللاشعور
السؤال: هل أساس الحياة النفسية قائم على الشعور أم اللاشعور؟
طريقة معالجة السؤال: جدلية
1- طرح المشكلة :
يهتم علم النفس التقليدي القائم على المنهج الإستبطاني – العقلي (أي المراقبة الداخلية للحياة النفسية الشعورية) بدراسة الإنسان ككائن حي له حياة نفسية متميزة تشتمل على المشاعر والعواطف والذكريات...إلخ، التي لا يعرفها (يدركها) إلا هو، أي أنه كائن واع لذاته النفسية الشعورية من جهة، ولما يحيط بها في الواقع من جهة أخرى، ويٌمكن تعريف الشعور (الوعي أو التفكير أو الوجدان الباطني) على أنه حدس الذات (النفس) ووعيها لأفعالها وانفعالاتها، فالأفعال تتمثل في مختلف العمليات العقلية كالتذكر والتخيل والإدراك...إلخ، والإنفعالات تتمثل في المشاعر والعواطف والميول (كالحزن والسعادة والقلق والحب)...إلخ، ويٌعرفه "لالاند" - أيضا - بقوله:"هو حدس العقل التام والواضح لأحواله وأفعاله".
غير أن علم النفس الحديث القائم على منهج التحليل النفسي (منهج التنويم المغناطيسي ومنهج التداعي الحر) أشار إلى أن هناك فرضية فلسفية أو نظرية علمية تؤكد أن سلوك الإنسان مصدره حوادث نفسية باطنية لا شعورية مجهولة وغامضة، ومن هنا فاللاشعور هو الجانب العميق من النفس يحتوي على ميول ورغبات مكبوتة مستعدة للظهور من حين لآخر في ساحة الشعور أو هو تلك السلوكات غير الواعية (اللامعروفة) التي يقوم بها الإنسان دون أن يعي أسبابها ومصدرها، ولقد أثارت "مشكلة أساس الأحوال النفسية" جدلا وتناقضا بين الفلاسفة وعلماء النفس، وأطباء الأمراض العقلية والنفسية، فهناك من يرى بأن أساس (مبدأ أو مصدر) الحوادث النفسية يتمثل في الشعور كحقيقة سيكولوجية (نفسية)، ونقيضا لذلك هناك من يعتقد (فرضية) ويؤكد (نظرية) بأن الأحوال النفسية قائمة على أساس اللاشعور كحقيقة نفسية باطنية، ومنه نطرح المشكلة ونقول:
إلى أي مدى يعتبر الشعور (الوعي) مصدرا وأساسا للأحوال النفسية؟ وبصيغة أخرى: أيهما يمثل تفسيرا حقيقيا للحياة النفسية، الوعي (الشعور) أم اللاوعي (اللاشعور)؟
2- محاولة حل المشكلة :
يرى أنصار الموقف الأول الذين يمثلون النظرية التقليدية (الكلاسيكية) العقلية في علم النفس أمثال (ابن سينا – ديكارت – هنري آي – أندري لالاند – هنري برغسون – جون بول سارتر) أن الحياة النفسية بمختلف حوادثها تقوم على أساس الشعور (الوعي أو التفكير أو الوجدان الباطني) والدليل على ذلك أولوية الفكر على الوجود، لأن الإنسان موجود كذات مفكرة أولا، قبل الوجود المادي، وهذا ما أكده "ديكارت" بقوله:"أنا أفكر إذن أنا موجود"، ومن هنا ما دام الشعور هو الحدس فإنه يقدم لنا معرفة تامة وواضحة عن أحوالنا النفسية الداخلية، فكما يقول "ديكارت" :"الشعور والحياة النفسية مترادفان"، وبالتالي فمن الضروري الفصل التام بين النفس (الشعور) والبدن (الجسم)، وهذا يعني أن النفس تعي جميع أحوالها وتشعر بها، فكل ما هو نفسي شعوري بالضرورة، لأنه لا توجد واسطة بين الشعور والأحوال النفسية، وكل ما هو جسمي لا شعوري بالضرورة، ومن هنا كان شعارهم:"كل ما لا نشعر به ليس من أنفسنا"، وهذا ما جعل "لالاند" يقول:"الشعور معطى أولي غير متميز ومادة لكل حياة نفسية"، أو كما يقول "هنري آي" :"الشعور والحياة النفسية مترادفان، وبالتالي فإن
الظاهرة إما لا شعورية فيزيائية أو شعورية نفسية".
أما "ديكارت" فقد أكد أن نشاط الروح (النفس) يتمثل في التفكير، وكما يقول:"لا وجود لحياة نفسية خارج الروح إلا الحياة الفيزيولوجية، إذ أن النفس لا تنقطع عن التفكير إلا إذا إنقطع وجودها"، ومن هنا فالشعور يتسع لكل الحياة النفسية وهو مستقل عن البدن، ويقول "ديكارت" :"لذا ثبت عندي أن هذه الأنا، أعني نفسي التي بها أكون أنا، تتميز عن جسمي تميزا تاما حقيقيا هي قادرة على أن تكون أو توجد بدونه..."، وكمثال على أن الشعور نفسي، واللاشعور جسمي فإننا لا نشعر بعمل المعدة أو الدورة الدموية أو حركة العين، لأن هذه أحوال جسمانية لا شعورية، أما "حبي" لشخص ما فيمثل حالة نفسية شعورية.
ولأن الشعور يتميز بالإستمرار والديمومة فإن الأحوال النفسية في الحاضر هي امتداد واستمرار للأحوال النفسية الماضية، وسيضل الفرد يشعر بتلك الأحوال طيلة حياته، فالشعور بالذات لا يتوقف أبدا كما أكد ذلك "ابن سينا".
أما "هنري برغسون" فقد أكد أن الحياة النفسية ديمومة متجددة متواصلة وكيفية تلقائية، ويقدم لنا "صاحب جائزة نوبل" (1927) مثالا يوضح فيه فكرة "الديمومة" فمثلا: الشعور بالفرح يبدو ضعيفا إذا إنعزل عن حياتنا النفسية، لكنه عندما يرتبط بها يصبح أشد وأقوى لأن الديمومة تمثل تعبيرا حقيقيا عن الوجدان الباطني وما فيه من مشاعر وعواطف غير منقطعة تٌعبّر عن الزمان الحيوي الديناميكي الشعوري الذي نعيشه دون أن يكون هناك انقطاع بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا الشعوري، وكما يقول "برغسون": "الديمومة المحضة هي الديمومة الواقعية، الديمومة التي تعاش فعلا"، أي تلك التي نعيشها شعوريا.
على هذا الأساس من المستحيل الجمع بين الشعور واللاشعور داخل الحياة
النفسية (دليل منطقي) لأن الحياة النفسية في جوهرها شعورية فقط، لذلك لا يمكن أن تكون لا شعورية فمثلا: لا يمكننا أن نتصور عقلا لا يفكر، ونفسا لا تشعر، ولهذا فالتسليم بوجود اللاشعور يمثل تناقضا واضحا في حياة الإنسان، وكما يقول "سارتر" :"فالسلوك الذي يختاره الإنسان إنما يعيشه ويشعر به".
وضمن نفس السياق أكد الفلاسفة التجريبيين عدم وجود اللاشعور لأنه غير قابل للملاحظة لا بالحواس الخارجية ولا بالحواس الباطنية (الحس المشترك – الخيال – الوهم – الحافظة – المتصرفة)، أما الشعور فهو قابل للملاحظة بالحواس الباطنية فمثلا: عندما نفرح نشعر بالسعادة في أعماقنا النفسية.
إذن، فحياتنا النفسية شعورية بامتياز.
صحيح نسبيا ما أكده أنصار الموقف الأول، لكن أنصار النزعة المادية بزعامة (داروين) وأنصار المدرسة السلوكية التي يمثلها "جون واطسن" اعتبروا الشعور بمثابة إحساس، أي أن الشعور ظاهرة فيزيولوجية قابلة للملاحظة، وأفعالنا وانفعالاتنا هي ردود أفعال جسمية، وهذا ما جعل "داروين" يقول:"النفس خرافة ميتافيزيقية"، كما أن أنصار الشعور لم يميزوا بين الشعور كظاهرة نفسية، وبين الفكر كعملية عقلية، أضف إلى ذلك أن الشعور لا نلمسه ولا نراه ولا نستطيع قياسه، إذن فهو غير موجود، وهذا يعني أن القائلين بالشعور والوعي واهمون وعاجزون عن معرفة حقيقة النفس، بل كيف نفسر السلوكات الغامضة الصادرة عنا ولا نعرف سببها أو مصدرها مثل: كرهنا لشخص نراه لأول مرة، أو اصابتنا بتأنيب الضمير تجاه حالة ما؟، بالطبع إنه اللاشعور هو الذي يتحكم فينا، كما أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجمع بين المتناقضات، الحب والكره، والخير والشر، والشعور واللاشعور، بل إن علم النفس الحديث أثبت لنا أن الحياة النفسية ليست مرادفة للشعور، بل هي أوسع منه بكثير، مما يعني أن كل نشاط نفسي ليس بالضرورة شعوريا، فقد يكون لا شعوريا، وإذا كان "ديكارت" قد أنكر وتجاهل دور اللاشعور واعتبره حادثة فيزيولوجية، فإن اللاشعور يبقي جزء من الحياة النفسية لأنه يٌعبّر عن الجانب الغامض والمجهول لهذه الأحوال النفسية، ومن هنا فاللاشعور حقيقة ثابتة لا يمكن انكارها.
وعلى النقيض يؤكد أنصار الموقف الثاني الذي يمثله العديد من الفلاسفة وعلماء مدرسة التحليل النفسي أمثال (ليبنتز- كانط – شاركو – بيرنهايم - جوزيف بروير - سيغموند فرويد) أن الأحوال النفسية بمختلف أفعالها العقلية وانفعالاتها النفسية قائمة على أساس اللاشعور (اللاوعي) لأن هناك دلائل فلسفية وعلمية تؤكد وجود حياة نفسية لا شعورية، فقد أثبت الفيلسوف الألماني "ليبنتز" أن هناك عددا لا حصر له من الإدراكات (ادراكات صغيرة) تفلت من قبضة تأملنا ووعينا في كل لحظة انطلاقا من تصنيفه للشعور إلى درجات، فهناك التأملي والهامشي وما تحت الشعور القريب من اللاشعور، وكما يقول:"إن الروح تفكر دوما، ولكن لا أوافق على أنها تشعر بكل أفكارها، فالحاضر مثقل بالمستقبل ومشحون بالماضي، وليس بالإمكان أن نتأمل دائما بوضوح كل أفكارنا".
أما "إيمانويل كانط" فقد أكد أن نفوسنا تتضمن تغيرات ندركها بصورة مبهمة، وهذا يعني أن في نفوسنا "تصورات غامضة" وأفكار تخفى على الشعور.
ويعود إثبات اللاشعور بطريقة علمية إلى مدرسة التحليل النفسي التي اهتمت بمعالجة الإضطرابات (الأمراض) النفسية والعقلية وخاصة مرض "الهيستيريا"، حيث أكد الأطباء في القرن التاسع عشر أن الأمراض العقلية والنفسية لها أسباب عضوية (جسمية) يمكن علاجها بالأدوية والعقاقير والمهدئات، لكن الطب لم يتمكن من تحديد هذه الأسباب العضوية للأمراض العقلية والنفسية، كالهستيريا والعصاب والذكريات الأليمة والسلوكات الغامضة والمجهولة...إلخ، مما أدى ببعض الأطباء وفي مقدمتهم "بيرنهايم" إلى إرجاع هذه الأمراض لأسباب نفسية من خلال استخدامهم لمنهج التنويم المغناطيسي لمعالجة مرض الهستيريا، إلا أن الشفاء لم يكن تاما، لأن المريض سيصاب بالهستيريا من جديد بعد مدة معينة بسبب سيطرة بعض الأفكار اللاشعورية على سلوكاته، وهذا ما أكده "بيرنهايم" بقوله:"إن فكرة ما إذا ما رسخت في الذهن أصبحت تمارس نشاطا لا شعوريا".
أما "شاركو" فقد أكد أن الأعراض العصبية للهستيريا مثل: الخلط الذهني وعجز الجهاز العصبي عن آداء وظيفته، ليس لها سبب عضوي، وبالتالي لها سبب نفسي لا شعوري غامض ومجهول، وهذا ما دفع "جوزيف بروير" إلى القيام بعدة تجارب على المرضى معتمدا على طريقة التنويم المغناطيسي، أشهرها التجربة التي قام بها على فتاة عمرها واحد وعشرون (21) سنة أصيبت بمرض "الهستيريا" بعد وفاة أبيها، فكانت تعاني من اضطرابات في حركة العينين وفي الرؤية، وعند اخضاعها للتنويم المغناطيسي تحدثت عن مكبوتاتها المتعلقة بالذكريات الأليمة في حياتها، فتحدثت عن مرض أبيها، وكيف كانت تحبس دموعها (تكبتها في ساحة اللاشعور) حتى لا يتأثر أبوها، وعندما استيقظت من التنويم واستعادت وعيها زالت عنها أعراض المرض، فلاحظ "بروير" أن المريض إذا تذكر مرضه شفي منه وزالت عنه أعراضه، كما يمكن تخليص المريض من بعض الإضطرابات عن طريق التعبير عما يشعر به.
غير أن العلاج بالتنويم المغناطيسي دفع "سيغموند فرويد" إلى البحث عن
وسيلة أخرى لعلاج هذه الأمراض فتوصل إلى التحليل النفسي الذي يقوم على منهج التداعي الحر، وتأكد من أن أعراض الهستيريا سببها إخفاء بعض الذكريات الأليمة والأحداث المكبوتة، وبالتالي إكتشف بأن هناك علاقة بين الأعراض العصبية والحياة النفسية اللاشعورية (المكبوتات)، وكما يقول "فرويد" :"إن فرضية اللاشعور، فرضية لازمة ومشروعة ولنا أدلة كثيرة على وجود اللاشعور".