خطبة عن راحة البال معناها وطرق استجلابها - موعظة راحة البال من أعظم النعم في الدنيا وسلامة القلب
خطبة مؤثرة عن راحة البال
راحة البال: معناها ... وطرق استجلابها
عناصر الخطبة
1/من سُنَّة الحياة التقلب والتغيُّر 2/راحة البال من أعظم النعم في الدنيا 3/المفهوم الصحيح لراحة البال 4/سلامة القلب تُنتِج راحةَ البال 5/أفضل الطرق لاستجلاب راحة البال 6/تصحيح خطأ أن راحة البال في العزلة 7/بيان أن راحة البال في أربعة أشياء
اقتباس
ولا ينبغي أن يَفهَم أحدٌ أن راحة البال تَعنِي تركَ العمل، أو هي الدَّعَةُ والكسلُ، كلَّا، بل إنَّ هذه الراحة برُمَّتِها متولدةٌ عن عمل قلبيّ وعمل بدنيّ، ولا عجبَ إذا قيل: إنَّ العمل من مُقتضيات راحة البال...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، مالِك الملك، يؤتي الملكَ مَنْ يشاء، ويَنزِع الملكَ ممَّن يشاء، ويُعِزّ مَنْ يشاء، ويُذِلّ مَنْ يشاء، بيده الخير؛ إنَّه على كل شيء قدير، يولج الليل في النهار، ويُولِج النهارَ في الليل، ويُخرِج الحيَّ من الميت، ويُخرِج الميتَ من الحي، ويَرزُق مَنْ يشاء بغير حساب، لا إله إلا هو، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، وخليله وخيرته من خلقه، بلغ رسالة ربه، وأقام الحجة على أمته، فما ترك خيرًا إلا دلها عليه، ولا شرًّا إلا حذرها منه، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، فيا أيها الناسُ: اتقوا الله حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، والزموا جماعةَ المسلمين وإمامَهم؛ فإنَّ يدَ اللهِ على الجماعة، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ.
عبادَ اللهِ: إن الحياةَ تقلُّبٌ وتداوُلٌ، تَحمِل في طياتها أفراحًا وأتراحًا، وضحكًا وبكاءً، وكَدَرًا وصفاءً، مَنْ سرَّه زمنٌ ساءَه زمنٌ آخَرُ، فمُنَغِّصاتُها كثيرةٌ، ونفسُ المرءِ تحوم بها في كلِّ اتجاهٍ زوابعُ الكدرِ والقترِ، والهمومِ والغمومِ، ومثلُ هذا التراكمِ -عباد الله- كفيلٌ بغيابِ راحةِ البالِ عن المرء، حتى يُحيل له العسلَ مُرًّا، والعذبَ مِلحًا أُجاجًا.
وممَّا لا ريب فيه -عباد الله- أن مِنْ أعظمِ النعمِ في هذه الحياة راحةَ البال؛ فإنَّ مَنْ ذاقَها في حياته فكأنَّه مَلَكَ كلَّ شيء، ومَنْ فقَدَها في حياته فكأنه لم يَملِك شيئًا البتةَ، ولا ينبغي أن يَفهَم أحدٌ أن راحة البال تَعنِي تركَ العمل، أو هي الدَّعَةُ والكسلُ، كلَّا بل إنَّ هذه الراحة برُمَّتِها متولدةٌ عن عمل قلبيّ وعمل بدنيّ، ولا عجبَ إذا قيل: إنَّ العمل من مُقتضيات راحة البال، والبال -أيها المسلمون- هو الحال والشأن، يقال: فُلَانٌ رخيُّ البالِ، وناعمُ البالِ؛ أي: موفورُ الْعَيْش، وهادئُ النَّفس والخاطر، وهو باعتبار ما يضاف إليه، فثمةَ كَسْفُ بالٍ، وشَغْلُ بالٍ، وفسادُ بالٍ، والغرضُ المنشودُ لكلِّ عاقلٍ هو راحةُ البالِ التي هي صلاحُه وصفاؤُه، والله -جل وعلا- يقول: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 1-2].
وإنَّ أهلَ النظر والنباهة يُدرِكون جميعًا: أنَّ راحةَ البالِ غايةٌ منشودةٌ للمرء، وأنها تفتقر إلى سَكِينةِ قلبٍ لا يغشاها جَلَبةٌ، وصفاءِ روحٍ لا يشوبه كدرٌ، وأخذٍ بالأسباب الجاذبة، وقطعٍ للأسباب الدافعة؛ فالاحتقانُ النفسيُّ والقلقُ، والتوترُ والفَرَقُ، وتغليبُ الظنون السلبيَّة على الظنون الإيجابيَّة، كلها عواملُ مُزاحِمةٌ لراحة البال، إن لم تكن طاردةً لها بالكليَّة، ومربطُ الفرسِ في ذلكم كلِّه هو القلب؛ لأن القلب إذا كان سليمًا يَقِظًا استسقى راحةَ البال بمجاديح الصفاء، وسلامة الصدر، فإذا كان تصفير التلوث البيئيّ أمرًا منشودًا عندَ الناس، فإنَّ تصفيرَ التلوث القلبي كذلكم؛ فالأوَّلُ للحِفاظ على البيئة، والآخَر للحِفَاظ على البال؛ حيث إنَّ راحة البال لا يَذُوقها امرؤٌ ذمَّ غيرَه لِينال المدحَ دونَه، ولا امرؤٌ خفَض شَأنَ غيرِه ليعلوَ شأنُه، ولا امرؤٌ أطفَأَ نورَ غيره ليَسطعَ نورُه، ولا امرؤٌ أسكَتَ غيرَه ليكون الحديثُ له وحدَه، ولا امرؤ صَعِدَ على أكتاف الآخَرين؛ ليقطف الثمرةَ له دونَهم، ولن يذوقَ راحةَ البال مَنْ لم يتصالح مع نفسه، ومع الناس، ويُصفِّر صراعاتِه معَهم، وكذلكم لن يذوق راحةَ البال: مَنْ لم يكن كما هو بلا تكلُّف، ومَنْ لَبِسَ لَبُوسًا ليس لَبُوسَه، ومَنْ مشى مشيةً ليست مشيتَه.
فعلى المر المسلم أن يُعِيد تقييمَ نفسِه، وينظرَ في كل ما يَعنِيه، ويتسلَّل لِوَاذًا من كل ما يُلحِق الضررَ بروحه وجسده، فلا راحةَ بالٍ لحاسد، ولا راحةَ بالٍ لنمَّام، ولا راحةَ بالٍ لقلبٍ مُلئ بالضغائن، وإنَّما يمنَح اللهُ راحةَ البال لمَنْ كان مخمومَ القلبِ، أتدرون مَنْ هو مخمومُ القلبِ؟ إنَّه التقيُّ النقيُّ، لا إثمَ فيه ولا غلَّ ولا بغيَ ولا حسدَ، كما صحَّ بذلكم الخبرُ عن الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه.
إنَّ راحةَ البال لَنعمةٌ كبرى، ومنحةٌ جُلَّى، لا ينالها كلُّ أحدٍ، فهي لا تُشترى بالمال، ولا تُفتقَد بالفقر؛ لأنَّها إحساسٌ قلبيٌّ، وشعورٌ عاطفيٌّ لا تَستَجلِبُه زخارفُ الدنيا، بالغةً ما بلَغَت من المال والجاه، وفي الوقت نفسه لا يُعِيقُه فقرٌ ولا عَوَزٌ بَالِغَيْنِ ما بَلَغَا من المسغبةِ والإملاقِ، فقد يَنال راحةَ البال فقيرٌ يَبِيت على حصير، ويفتقدها غنيٌّ يتَّكِئ على الأرائك، ويفترِش الحريرَ، فذلكم الشعورُ العاطفيُّ عباد الله هو راحة البال التي لا تتحقق إلا بجسر مشيد، ينشئه المرء فوق بحر الأثرة والغل والحسد؛ ليعبر به من دنياه إلى أخراه، عزيز النفس، سليم القلب، منشرح الصدر، تراه قد آوى إلى فراشه حين يرخي الليل سدوله، فيغمض عينيه ويغط في نوم عميق، لا يُعِيقُه تفكير، ولا ينغص نومه أرق.
وإنَّ مِنْ أخصَرِ الطرقِ لاستجلابِ راحةِ البالِ: إدراكَ المرء أنَّ الحياة مَهمَا طالَتْ فهي قصيرةٌ، وأنها مختصَرةٌ في ثلاث آيات قصيرات، من قول الله -جل شأنه- عن الإنسان: (خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ)[عَبَسَ: 19-21]، نعم عبادَ اللهِ: لم تكن الحياةُ بحاجةٍ إلى وَصْفٍ أكثرَ من هذا، ولا أوجزَ منه؛ ليُدرك المرءُ: أنَّ الأمور بيد الله، فما شاء اللهُ كان، وما لم يَشَأْ لم يكن، وأنَّ ما كان له فسيأتيه وإن أبَى الناسُ أجمعون، وأنَّ ما لم يكن له فلن يأتيه ولو مَلَكَ كنوزَ قارون، وأنَّ ما مضى فاتَ فلَنْ يرجعَ إليه، وأنَّ المستقبلَ غيبٌ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، وأنَّه ليس له إلا ساعتُه التي هو فيها، ولهذا استدلَّ أهلُ المعرفة على راحة بال المرء بثلاثٍ: بحُسن التوكلِّ فيما لم يَنَلْ، وحُسْنِ الرضا فيما قد نَالَ، وحُسْن الصبر على ما قد فات.
إنَّ المرءَ بمثل هذا الفَهْم واستصحابِه في كل آنٍ، سيتدثَّر براحةِ بالِه، ويتزمَّل بسَكِينة قلبِه وصفاءِ عيشِه، ولأَجْلِ أَنْ يُؤمِّنَ المرءُ لنفسه ديمومةَ راحةِ البالِ، فعليه استصحابُ أمور أربعة: أولُها: أنَّه لا نجاةَ له من الموت، بل هو مُلاقِيهِ وإِنْ فرَّ منه؛ لأنَّ الموتَ يَرقُبُه من أمامه لا مِنْ خَلفِه؛ (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)[الْجُمُعَةِ: 8]، ولْيَسْتَحْضِرْ في نفسِه قولَ عليٍّ -رضي الله تعالى عنه-: "أيّ يوميّ مِنَ الموت أفِرّ؟ يومٌ لم يُقدَّر، أو يوم قُدِّرَ، يوم لم يُقدَّر فلا أحذره، ومن المقدور لا ينجو الحَذِر".
وثانيها: أَنْ لا راحةَ دائمةٌ في الدنيا، وأنَّ الأيامَ قُلَّبٌ، إِنْ سرَّت نفسًا ضاحكةً ساءت نفسًا باكيةً. وثالثها: أَنْ لا سلامةَ مِنَ الناسِ على الدوام، وأنَّه مَهمَا كان تحرُّزُه منهم وعزلتُه فالسلامةُ منهم أعزُّ من الكبريت الأحمر، وقديمًا قيل:
ولو أنَّ واشٍ باليمامة دارُه *** وداري بأعلى حضرموت اهتدى لِيَا
وإنَّ من الخطأ البيِّن ظنَّ كثيرٍ من الناس أنَّ راحةَ البال لا تتحقَّق إلا بالعزلة دون الخُلطة، وفي الدَّعة دون الكد، ففي الحديث الحسن: "المؤمنُ الذي يُخالِط الناسَ ويَصبِر على أذاهُم أفضلُ من المؤمن الذي لا يُخالِط الناسَ ولا يصبِر على أذاهم". ورابع الأمور عبادَ اللهِ: أنَّه لا راحةَ بالٍ لمَنْ لا رضا له، فإنَّ الرضا بالله وبقضائه وقدَرِه أُسٌّ أساسٌ لراحة البال، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: "إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط"، ورى مكحول أن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- كان يقول: "إن الرجل ليستخير الله فيختار له فيتسخط على ربه ولا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو خير له"، وسئل الحسن البصريّ: "مِنْ أين أُتي هذا الخلقُ؟ قال: من قِلَّة الرضا عن الله. قيل له: ومِنْ أين أُتِيَ قِلَّةُ الرضا عن الله؟ قال: من قِلَّة المعرفة بالله".
وجِماعُ ذلكم كله -عباد الله- ما ذكَرَه مَنْ أُوتي جوامعَ الكلم، وأفصحُ مَنْ نطَق بالضاد، -صلوات الله وسلامه عليه- بقوله: "ذاقَ طعمَ الإيمان مَنْ رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا"(رواه مسلم).
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورًا رحيمًا.
تابع قراءة الخطبة الثانية مع الدعاء في اسفل الصفحة على مربع الاجابة وهي كالتالي