خطبة الجمعة_ الهجرة ويوم عاشوراء مع مطلع العام الهجري.
خطبة الجمعة_ الهجرة ويوم عاشوراء مع مطلع العام الهجري.
الخطبة الأولى.
الحمد لله الفتاح العليم، هو الأول بلا بداية، و الآخر بلا نهاية. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أولٌ قبل كُلِّ أول، وآخرٌ بعد كُلِّ آخر. } هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { (3-الحديد). وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، نور الله الساطع، وبرهانه القاطع، وحجته الظاهرة. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد الفاتح لكل فضل، والباب لكل خير، وآله وصحبه، وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين، آمين.
أما بعد: فإن لكل مؤمن هجرة في مناسبة الهجرة، وهجرة المؤمن في هذه المناسبة الكريمة هي في قوله صلى الله عليه وسلم: { المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ، والمُؤمِنُ مَنْ آمِنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ - يعني شروره وآثامه - والمُهَاجِرُ مَنْ هَجرَ مَا نََهَى اللهُ عنه }[2].
فالمؤمن في نهاية العام وبداية عام جديد، لابد له من وقفة مع نفسه، يقلّب صفحات العام الماضي أمام عينيه، فما وجد فيها من عملٍ حسن شكر الله عزَّ وجلَّ عليه، وسأله أن يزيده منه، وما وجد فيه من عمل فيه إثم أو وزر، أو غفلة أو جهالة - سواء كان عن قصد أو عن غير قصد - تاب إلى الله عزَّ وجلَّ منه، وسأله أن يسعه بواسع مغفرته، وشامل رحمته عزَّ وجلَّ.
ولذلك كان دأب السلف الصالح - رضى الله عنهم - أن يجعلوا اليوم الأخير من العام كلًّه للتوبة والاستغفار مما مضى من الذنوب والآثام، فلا تَكِلُّ ألسنتُهُم من الاستغفار، وتقف أفئدتهم وقلوبهم على باب التواب الغفار، تسأله بقلوب منكسرة وأبدان خاشعة غفران ما مضى، والعفو عما سلف، ويضرعون إليه أن يوفقهم فيما بقى من الأوقات والأيام والأنفاس.
وكانوا يحرصون أن تكون نهاية العام خيراً، وبدايته خيراً، فتطوى صحف العام الماضي بالأعمال الصالحة. فيجعلون الليلة الختامية للعام مع الله .. في كتاب الله، أو في عبادة واردة في كتاب الله، أو مأثورة عن سيدنا رسول الله، أو على الأقل يغلقون ألسنتهم في هذه الليلة عن الخنا والفجور، وقول الزور، واللغو - فضلاً عن الغِيبَةِ والنَّمِيمَة، وما شابه ذلك - لقوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا}[3]. فإذا ختم العام بخير لعل الله يأتي على ما فيه من ذنوب وسيئات فيمحوها، بل ربما يبدِّلُها - كما قال عزَّ شأنه - بحسنات: } فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ { (70-الفرقان).
وقد قال صلى الله عليه وسلم حديثاً عظيماً، وأصلاً كريماً، وعملاً سهلاً يسيراً على كل مؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم : { إذا قال العبد المؤمن: لا إله إلا الله ذهبت إلى صحيفته فَمَحَتْ كل سيئة تقابلها حتى تجد حسنة تقف بجوارها }[4]، يعنى: ما بينها وبين العمل الصالح المسجل في صحيفتك تمحوه، أي أن: لا إله إلا الله تمحو ما قبلها من الخطايا. ويفتتحون هذا العام بالصيام لقوله صلى الله عليه وسلم: { أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللّهِ الْمُحَرَّمُ }[5].
ولا شك أن العمل الذي بدايته الصيام عمل ناجح وصالح على الدوام، لما ورد فى الأثر { إذا أحب الله عبداً وفقه لأفضل الأعمال في أفضل الأوقات }. وكان بعضهم يفتتح في هذا اليوم القرآن الكريم ولا يتركه حتى يأتي على نهايته. ومن كان يعلم من نفسه العجز كان يقرأ في صبيحة ذلك اليوم بسم الله الرحمن الرحيم مائة وأربع عشرة مرة - يعني بعدد سور القرآن الكريم - ويكثر من قراءة سورة الإخلاص، لأنه ورد في الحديث الشريف: ( أنها ثلث القرآن ).
وكان كثير منهم يصلي في هذه الليلة أو هذا اليوم صلاة التسابيح، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس في شأنها حيث قال له صلى الله عليه وسلم: { يَا عَبَّاسُ يَاعَمَّاهُ أَلاَ أُعْطِيكَ؟ أَلاَ أَمْنَحُكَ؟ أَلاَ أَحْبُوكَ؟ أَلاَ أَفْعَلُ بِكَ عَشْرَ خِصَالٍ إذا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ الله لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ قَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ خَطْأَهُ وَعَمْدَهُ، صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ سِرَّهُ وَعَلاَنِيَتَهُ عَشْرَ خُصَالٍ أَنْ تُصَلِّي أَربَعَ رَكَعَاتٍ ثم وصفها له وقال له في نهايتها: إنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيهَا في كلِّ يَوْمٍ فَافْعَلْ، فإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمُرِكَ مَرَّةً }[6]. فكانوا يبدأون العام بهذه الصلاة طلباً لمغفرة الله، ورجاءاً فيما عند الله عزَّ وجلّ.
أما الهجرة التي يهاجرونها فإن كل مؤمن في هذا العام الجديد يراجع نفسه، ويطابق أوصاف نفسه، على ما ورد عن الحبيب المختار صلى الله عليه وسلم من ناحية الأخلاق والعبادات والعادات والمعاملات، فإن وجد في نفسه خُلُقاً لا يتطابق مع الشمائل المحمدية هَجَرَه، وكان في ذلك هجرته وانتقل إلى الأفضل والأعظم، بمعنى: إذا وجد في نفسه شيئاً من الكِبْر - ومن صفات الحبيب صلى الله عليه وسلم التواضع - هجر الكبر، وسارع إلى التخلق بالتواضع لله عزَّ وجلّ.
ويحثه على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: { لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ. الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ}[7]. يعني: عدم الاعتراف بالحق مع التلبس بالباطل - يعني يرى الإنسانُ نَفْسَهُ مخطئاً ولا يعترف بخطئه، ويُصِرُّ أنه على صواب - لأن الاعتراف بالحق فضيلة.
وهذا مرض قد شاع وانتشر في عصرنا وزماننا!! فإن المرء يعرف ويتيقن أنه على خطأ، ولكنه يكابر ويجادل ويرفض الاعتراف بذلك، وليس هذا من شرع الله ولا من دين الله - في قليل أو كثير- بل هو كما نعى على أهله الله: } وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ { (206-البقرة)، لأن المؤمن يعترف بخطئه ولو كان مع طفل صغير، فضلاً عن امرأة أو صبي، أو أخ أو مسلم مهما كان شأنهن فإن الاعتراف بالخطأ يمحو الضغينة في قلوب الآخرين، ويستل الحقد من قلوب الآخرين، لأن اعتراف الإنسان يكون بمثابة غسيل لقلوب الآخرين: } وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ { (47-الحجر).
وكذا إن كان يجد في نفسه غلظة بدَّلها بالشفقة والرحمة، وجعل قدوته قول الله: } فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ { (159-آل عمران). وإن وجد في نفسه شحاً عالجه بالكرم المحمدي، وإن وجد في نفسه عَجَلَةً عالج ذلك بالحلم النبوي. وهكذا ينظر في أخلاقه، ويقيسها بشمائل وصفات وأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتلو في ذلك - بعمله لا بلسانه - قول الله عزَّ وجلّ: } لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا { (21-الأحزاب). وقس على ذلك بقية الشمائل والأخلاق.
ثم ينتقل إلى عباداته، فإن وجد في عباداته تكاسلاً أو تراخياً، أو قلة إخبات وخشوع وخضوع، رجع إلى نفسه ليصلح من شأنه. فإن وجد نفسه يصلي الصبح بعد شروق الشمس، فَلْيَبْكِ بدل الدمع دماً، وإذا وجد أن نفسه لا تتأسف على ذلك، ولا تحزن على ذلك - فإن الذي يستيقظ من نومه بعد الشمس ولا يجد في قلبه لوماً، ولا توبيخاً، ولا تعنيفاً لنفسه - فقد سقط من عين الله عزَّ وجلّ، لأن من عَظَّمَهُ الله جعله يعظم فرائضه، ومن سقط من عين الله عزَّ وجلّ جعله يتكاسل ويتراخى عن فرائضه. وقد وصف بذلك المنافقين فقال: } وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً { (142-النساء). وقال صلى الله عليه وسلم: { بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، لاَ يَسْتَطِيعُونَهُمَا }[8]. وقال سيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: ( أتى علينا وقت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يتخلف عن صلاة الجماعة في وقتها إلا منافق ظاهر النفاق )، فيتخلص من أمثال هذه العادات.
وأيضاً إذا وجد نفسه يجلس يتحدث أو يجلس - وليس له عمل - ويستمع إلى الآذان ولا يجد من نفسه عزيمة ولا حركة لتلبية الآذان في وقته، فليعلم علم اليقين أنه في هذا الوقت ممن باءوا بالخزلان من الرحمن عزَّ وجلّ لأن الله لا يحضر أمام حضرته في الصف الأول في الوقت الأول إلا من يحبه عزَّ وجلّ ، وفى الأثر كما أسلفنا: { إذا أحب الله عبداً سخره لأفضل الأعمال في أفضل الأوقات } وقد قال له سيدنا جابر رضى الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: { أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا }[9] .
ثم بعد ذلك يكون للمسلم وقفة مع عاداته، فإن كانت عاداته توافق شرع الله حمد الله عليها، وذلك كعاداته في أكله وفي شربه، وفي زيِّه وفي نومه، وفى مشيه وفي حديثه، وفي جلوسه مع الآخرين. فإن كان من الذين } وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا { (67-الفرقان)، فرح وبشَّر نفسه لأنه من عباد الرحمن. أما إذا كان مقتراً على نفسه وأهله - مع السعة - أو مبذراً، فإن هذه علامة أن الله لا يحبه لقوله عزَّ وجلّ: } إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ{ (141-الأنعام)، وقوله: }إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ{ (27-الإسراء(.
فمثلاً إن كان يشرب دخاناً فالله عزَّ وجلّ أمرنا أن نشكره على النعم ومن أجل النعم نعمة المال وهل يليق بمؤمن أعطاه الله المال أن يشكره بحرق هذا المال؟ هذا مع أنه يحرق مع المال صدره ورئتيه وأعضاء جسمه لا يحرق المال فقط بل يضر نفسه ويضيق على أهل بيته فليهجر هذه العادة الذميمة مع مطلع العام الهجري الجديد ليكون من المهاجرين: }لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - ما جزاؤهم؟ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{ (8-الحشر(.
إذا كان يجالس بعض الغافلين الذين يخوضون بالباطل في أعراض الآخرين، ولا يتورعون عن الغيبة والنميمة، فليمتثل لقول ملك الملوك عزَّ وجلّ: } فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ { (68-الأنعام)، يهجر هذه المجالس ويجالس الذين أمر الله المؤمنين أن يجالسوهم في قوله عزَّ وجلّ: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ { (119-التوبة).
وكذلك إذا كان له عادات في مشيه وفي نومه وفي حديثه لا تطابق ما ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله فليهجرها ليكون مهاجراً، وكذلك في معاملاته. فالرجل الصالح في زماننا هو الذي يتعامل مع الخلق على سنة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فلو كانت الكذبة الواحدة ستدر عليه ملايين الدولارات يرفضها ويأباها لأن فيها مخالفة لله ومخالفة لحبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن الكاذب يدخل في قول الله: } فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ { (61-آل عمران).
فلا يدخل في لهو ولا في مزاح ولا في جد لا مع صبيان ولا مع أهله ولا مع إخوانه لأن المؤمن الصادق في كل أقواله وأعماله فيتحرى في تعامله مع إخوانه أن يكون من المؤمنين وهذا يقتضي أن يتبرأ من الغش لقول سيد الأولين والآخرين: { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا}[10]. فلا يغش الأمة أو أي فرد من الأمة في نصيحة أو في قول أو في عمل أو في بيع أو في شراء أو ما شابه ذلك فلو طالبه إنسان بنصيحة وقال خلاف ما يعرف ويعلم إن ذلك خلاف الحقيقة فهو غش يحاسب عليه يوم الدين وما أكثر الغشاشين في زماننا بهذه الطريقة.
فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، قال صلى الله عليه وسلم: {التائب حبيب الرحمن، والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ}[11]، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
يتبع الخطبة في اسفل الصفحة على مربع الاجابة الخطبة الثانية