المذاهب الاقتصادية الليبرالية
تابع بحث حول الفكر الاقتصادي
ابتداء من القرن الخامس عشر, و تحت تأثير التحولات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية السابقة , ينتقل مركز الأشغال الفكري للإنسان من القضايا الدينية إلى القضايا الزمنية ( الدنيوية ). و مع الحول الاجتماعي الجذري , و نضوج أشكال جديدة من العلاقات الاجتماعية و من الحكومات و من الأفكار , منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر , يبدأ علم الاقتصاد في الوجود بتحديد معالم موضوعه , الذي يشهد تناسقا داخليا و بلورة لمنهجه .
في إطار هذا الفكر يمكن أن نميز بين عدة اتجاهات نستعرضها بإنجاز فيما يلي :
أ- مدرسة التجاريين:
في القرون الثلاثة الممتدة من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر ظهر في أوروبا تيار جديد من الأفكار الاقتصادية أطلق عليه مؤ رخوا الفكر الاقتصادي اسم « مذهب التجاريين » و لم يتكون هذا التيار دفعة واحدة , و لم تتحدد معالمه بوضوح في وقت واحد بل خضع لتطور طويل . و المتتبع لكتابات مفكري التجاريين يلحظ بوضوح أن آراء كل مفكر قد تشكلت بظروف و مصالح بلده . و في إطار الانشغال بهذه القضايا تبرز بعض الأفكار الاقتصادية , تدور في الواقع حول طبيعة الثروة و كيفية زيادتها , و حول ظاهرة ارتفاع الأثمان التي كانت ظاهرة عامة في بلاد أوروبا في تلك الفترة . و على ذلك لا نجد لدى التجاريين تحليلا اقتصاديا واسعا, بل مجرد فلسفة تجارية لا تزيد في جوهرها على أن تكون مرحلة في تاريخ السياسة الاقتصادية, تشتمل على عدد من التدابير الاقتصادية التي يراد بها تحقيق التوحيد السياسي و القوة القومية. و برغم تشعب و تعدد أفكار التجاريين في هذا الصدد فإنه يمكن بصفة عامة إجمال الأصول و الاتجاهات الفكرية الجوهرية التي يصدر عنها الفكر التجاري , و خصائصه الأساسية على النحو التالي :
أولا : يجب أن تكون الدولة قوية , و يجب أن تكون غاية النظام الاقتصادي تحقيق هذه القوة . من هنا عرفت نظريتهم بنظرية « الاقتصاد للقوة » .
ثانيا : الثروة هي أهم ما يحقق قوة الدولة , و من ثم يجب أن تسعى الدولة إلى تنمية ثروتها . و الثروة كانت تتمثل لدى التجاريين , و بصفة خاصة الأوائل منهم , في الذهب و الفضة و بقية المعادن النفيسة , و لذلك يجب أن تتجه كل دولة إلى زيادة ما تحصل عليه من هذه المعادن التي تمثل الثروة . و لهذا كان البحث عن الذهب في العالم الجديد هو السمة التي ميزت التوسع التجاري في أول الأمر . و مع ذلك نبذ المتأخرون من التجاريين ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه التجاريون الأوائل , و الذي يتمثل في المطابقة بين الثروة و المعادن النفيسة . فالثروة عند المتأخرين منهم تتمثل في مقدار ما يحققه البلد فعلا من منتجات .
ثالثـا : اعتقد التجاريون أن الثروة الكلية في العالم ثابتة الحجم , و من ثم ذهبوا إلى أن ما تكسبه دولة من الدول من هذه الثروة إنما يكون عن طريق ما تفقده دولة أخرى منها و من هنا كانت تعاليمهم ذات طابع وطني و اعتدائي , إذ لا سبيل لغنى الوطن إلا على الإضرار بالأوطان الأخرى .
رابعـا : بالتطبيق لما سبق , فإن يتعين على الدولة أن تحتفظ بالمعادن التي لا تتوفر لديها . و في سبيل تحقيق هذا الهدف , فإن التجاريين يشيرون بإتباع عدد من الوسائل أهمها العمل على استغلال المناجم المنتجة لهذه المعادن , و منع خروجها من الدولة , و تشجيع قدومها إليها . و لكي يتحقق ذلك يتحتم عليها زيادة صادراتها , و هو ما يعني الوصول إلى ميزان تجاري في صالح الدولة . و من هنا وجب عليها أن تتدخل لتنظيم الصناعة و التجارة . و يستهدف تنظيم الصناعة جعلها قادرة على الإنتاج بأرخص الأسعار , أما تنظيم التجارة فيستهدف الواردات و تشجع الصادرات , على ألا يؤدي هذا إلى إعاقة الواردات من المواد الأولية اللازمة للصناعة الوطنية .
و هكذا أخذت سياسة التجاريين صورا مختلفة في التطبيق تبعا للظروف و الأوضاع التي كانت تواجه الدول المعتقدة في جدوى هذه السياسة . فكانت السياسة المعدنية التي ذاعت في أسبانيا خلال القرن السادس عشر , والسياسة الصناعية التي ازدهرت في فرنسا في القرن السابع عشر , والسياسة التجارية المطبقة في إنجلترا في غضون القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر . هذا إلى جانب سياسة العهد الاستعماري والتي طبقتها كل الدول الاستعمارية الكبرى .
خامسا : حاول التجاريون الكشف عن أسباب ارتفاع الأثمان التي كانت تمثل ظاهرة سائدة في بلدان أوروبا في ذلك الوقت . و أعطيت في هذا الصدد تفسيرات مختلفة أهمها ما جاء به « جان بودان » الذي قدم عام 15 تفسيرا يرتكز على كمية النقود . فتغيرات مستوى الأثمان تتوقف على تغيرات كمية النقود .
1- تقدير مدرسة التجاريين :
ساهم التجاريون في تخليص الأفكار الاقتصادية نهائيا من طابعها الديني والأخلاقي الذي كان يميزها في العصور الوسطى . ومع ذلك استمروا في ربط هذه الأفكار بالسياسة وجعلوا الاقتصاد في خدمتها . وبالنظر إلى الظروف التاريخية التي نشأت فيها مدرسة التجاريين , وجب الاعتراف بأنها قد أدت الدور التاريخي الذي كان يجب عليها تأديته . فقد ساعدت على قيام الدول القومية القوية , و على تنمية الصناعات و التجارة , كما أسهمت , باهتماماتها بالنقود , في خلق البنوك الأوروبية و توسيع نشاطها المالي على أن الدور المؤثر الذي لعبه فكر التجاريين لا يحجب وقوعه في كثير من المآخذ التي تتصل أساسا بنوعية التحليل الاقتصادي و الخلفية التي كان يصدر عنها , هذا فضلا عما أدت إليه السياسات التي أخذت بآراء التجاريين في التطبيق من نتائج سيئة في بعض الأحوال .
فمن ناحية لم يحظ التحليل الاقتصادي للظواهر الاقتصادية و العلاقات الخاصة بها بعناية تذكر من التجاريين , وإن كانت كتاباتهم لا تخلو من بيان بعض العلاقات الأساسية . وكان من شأن ذلك احتجاب الأساس التحليلي وراء الوصايا التي كانوا ينادون بها . ليس هذا فحسب . بل إن التحليل الاقتصادي اللاحق قد أثبت أن العديد من آرائهم محل مراجعة و نظر .
من ناحية أخرى و بالرغم من أن المتأخرين من التجاريين يجدون الثروة في المنتجات فإن تدفق الذهب و الفضة يمثل ميزة استمروا في المطالبة بتحقيقها . و تمثل الانشغال الرئيسي للتجاريين في البحث عن تحقيق ميزان تجاري موات للبلد . و قد أثبت التحليل الاقتصادي عدم إمكان الحصول بصفة مستمرة على فائض إيجابي في الميزان التجاري . ذلك أن وجود هذا الفائض يعني تزايد كمية النقود داخل البلد ومن ثم ارتفاع الأثمان في الداخل عنها في الخارج , فتقل الصادرات و تزيد الواردات , ويتحول الميزان التجاري إلى حالة العجز .
كذلك فإنه مما يؤخذ على فكر التجاريين , أنه كان صادرا في أغلب الأحيان عن خلفية تمثل أصحاب مصلحة مكتسبة يستهدفون حمايتها و تدعيمها . ومن هنا نجد التضارب بين كتاباتهم وفقا لما تقتضيه المصلحة الطائفية . ففي هذا الفكر ,كان الصوت الغالب هو صوت أصحاب المصلحة التجارية الممثلة في الشركات الاحتكارية الكبرى , مثل شركة الهند الشرقية , مما زاد من فرض تحقيق المصالح الخاصة لهؤلاء , بالنظر لالتقاء مصلحتهم مع مصلحة الدولة الناشئة . ولا شك أن ذلك قد ساهم في جعل أفكارهم غير متنافسة , و بالتالي فلم تكن السياسات الاقتصادية التي نادوا بها واحدة , أو حتى منسجمة مع بعضها .
هذا بالإضافة إلى ما ترتب على تطبيق سياسات التجاريين من نتائج سيئة في كثير من دول أوروبا فمن ناحية , أدت هذه السياسات إلى زيادة حدة الصراع بين الدول . و من ناحية أخرى أدى تطبيق السياسة المعدنية في أسبانيا إلى ارتفاع الأسعار و حدوث موجة تضخمية أضرت بالطبقات الفقيرة التي كانت تكون الغالبية العظمى من الشعب الأسباني . أما في فرنسا , فقد حدت السياسة الصناعية بالدولة إلى الاحتفاظ بأثمان المواد الزراعية في مستوى منخفض مما أدى إلى انخفاض دخول المزارعين و سوء حالتهم .
وأخيرا أضر العهد الاستعماري إضرارا بالغا بدول المستعمرات من مختلف النواحي الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية , وكان من أبرز النتائج السيئة لهذا العهد أن أصبحت الدول المستعمرة تتمتع باحتكار الشراء من المستعمرات والبيع لها , فكانت تشتري بأحسن الأثمان وتبيع بأغلاها .
و إذا كانت بعض أفكار التجاريين و السياسات الاقتصادية النابعة عنها لم تسلم من النقد من الناحيتين النظرية و التطبيقية على نحو ما قدمنا , فإن ذلك لا يعني أن تعاليمهم قد اندثرت كلية . فعلى الرغم من حجج كينز التي أوضحها في نظريته العامة , و التي هي على طرف نقيض من أراء التجاريين الذين كانوا يمجدون الادخار و ينددون بالاستهلاك و يدعون السلطة إلى اتخاذ الإجراءات و التدابير التي تكفل تخفيض أجور اليد العاملة , فإن التحليل الكينزي يلتقي مع ما انتهى إليه التجاريون من أن الفائض في الميزان التجاري يؤدي إلى انتعاش الاقتصاد القومي . كذلك وجد كينز في تحليل التجاريين للدور الذي يقوم به الإكثار من المعدن النفيس ما يتفق مع نظريته بالنسبة لآثار الزيادة و النقصان في كمية النقود على مستوى النشاط القومي .
كذلك فإنه لا يمكن تجاهل وجه الشبه بين ما كان ينادي به التجاريون و ما يراه عدد كبير من الكتاب المعاصرين في نظرية التطور الاقتصادي , حيث لا غنى عن قيام دور للدولة في هذا التطور . فضلا عن أن حرية التجارة لا تستقيم و مقتضيات التنمية في سائر الأحوال .
ب- مدرسة الطبيعيين :
يتسبب مذهب الطبيعيين إلى لفيف من المفكرين بفرنسا في القرن الثامن عشر, اجتمعوا حول زعيمهم فرانسوا كيناي ( 1694- 1774 ) و نشروا طائفة من الأبحاث و المؤلفات في الفترة من ( 1756 – 1778 ) كان لها الفضل في وضع أسس علم الاقتصاد . و بالطبيعيين ندخل في عصر المدارس و المذاهب في الفكر الاقتصادي , فلئن كان لكل واحد من كتاب هذا المذهب أسلوبه الخاص في عرض أرائه إلا أنهم جميعا يتفقون فيما بينهم حتى في التفاصيل الصغيرة , مما يجعلهم يستحقون لفظ « مدرسة » واحدة لدرجة أكبر مما تستحقها التيارات الأخرى في الفكر الاقتصادي السابق .
وبصفة عامة يقوم المذهب الطبيعي على فكرتين رئيسيتين , الأولى تتعلق بالنظام الطبيعي , و الثانية تتعلق بالناتج الصافي . و يستتبع هاتين الفكرتين سياسة اقتصادية متميزة .
• ب- 1- فكرة النظام الطبيعي :
اعتقد الطبيعيون أن الظواهر الاقتصادية تخضع لقوانين طبيعية لا دخل لإرادة الإنسان في إيجادها . وفي انطباقها وتنظيمها للحياة الاقتصادية تقوم هذه القوانين على مبدأين : الأول هو مبدأ المنفعة الشخصية , والثاني هو مبدأ المنافسة . فكل شخص في سعيه لتحقيق منافعه الشخصية ينافس بقية الأفراد في المجتمع فينشأ عن ذلك ما يحد من انطلاقه في تحقيق منافعه , ويتحقق بالتالي صالح الجميع .
وتتميز القوانين الطبيعية بأنها مطلقة لا استثناء فيها , وكل محاولة من الفرد للخروج عليها تعود عليه بالضرر مما يضطره للرجوع إليها . وهي قوانين عالمية تنطبق في كافة البلاد بصرف النظر عن ظروف كل بلد . فضلا عن كونها قوانين أماوالية لا تتغير ولا تتبدل , ويضاف إلى ذلك أنها قوانين إلهية فرضها الله وحتمها , ومن ثم لا يمكن أن ينتج عن انطباقها ضرر للناس .
مدرسة الطبيعيين في الفكر الاقتصادي
مدرسـة الطبيعيـين
يرجع إلى الطبيعيين ، وخاصة كيناي، الفضل في تخليص علم الاقتصاد من صفة التبعية للدين والفلسفة التي كانت تميزه في العصور القديمة والوسطى ، ومن صفة التبعية للسياسة العملية التي ميزت أفكار التجاريين.
كذلك كان للطبيعيين الفضل في تصحيح مفهوم الثروة . فلم يعد النظر للنقود على أنها الثروة كما كانت الحال عند التجاريين، بل أعطت أهمية للإنتاج.
فضلا عن آراء الطبيعيين أدت إلى تخفيف القيود التي كانت مفروضة على النشاط الاقتصادي في ظل التجاريين. ولعل أهم ما ينسب إلى الطبيعيين أنهم هم الذين أسسوا المذهب الفردي أو المذهب الحر الذي ساد حتى منتصف القرن العشرين، وأنهم أول من أعطى فكرة عن دورة الناتج الكلي وتداوله داخل البلد في مجموعه، وعن كيفية توزيعه بين الطبقات. وبالرغم من الجوانب الايجابية المتقدمة في فكر الطبيعيين والتي ساهمت في بلورة الاقتصاد السياسي كعلم له ذاتيته المتميزة عن غيره من العلوم، وفي تزويد التحليل الاقتصادي بالكثير من الأفكار التي ساعدت على تطوره، فقد انتقد مذهب الطبيعيين من عدة وجوه أهمها:
أولا: كانت فكرتهم عن الإنتاج قاصرة ومحدودة وذات طابع مادي، ذلك أن الزراعة وحدها هي النشاط المنتج. هذه الفكرة لا يمكن التسليم بها فالإنتاج هو كل خلق لمنفعة جديدة أو زيادة لمنفعة موجودة من قبل. ومن ثم تصبح الصناعة و التجارة أنشطة منتجة لأنها تخلق المنافع وتزيدها. ويترتب على ذلك عدم صحة نظريتهم في الضريبة الواحدة التي تفرض على دخول المزارعين، باعتبارها ممثلة للناتج الصافي للجماعة.
ثانيا: اعتقاد الطبيعيين في وجود قوانين الطبيعة تحكم الظواهر الاقتصادية أمر يخالف الواقع ويتنافى معه. فالظواهر الاقتصادية تتغير وتتطور، وتتغير تبعا لتلك القوانين التي تحكمها. ومعنى ذلك أن الطبيعيين لم تكن لديهم أية فكرة عن تطور الحياة الاجتماعية.
ثالثا: الاقتصار عل نظام الضريبة الوحيدة التي تفرض على النشاط الزراعي فقط لا يحقق العدالة في توزيع الأعباء الضريبية على جميع فروع النشاط الاقتصادي. هذا بالإضافة إلى أن الدولة لا يمكنها الاقتصار على ضريبة واحدة لتمويل نفقاتها المتزايدة.
تابع قراءة المزيد من المعلومات المتعلقة بمقالنا هذا في اسفل الصفحة على مربع الاجابة وهي كالتالي تابع بحث حول الفكر الاقتصادي