المشكلة الثانية: في تاريخ الفلسفة الإسلامية التوفيق بين الدين والفلسفة - علاقة الفلسفة بالدين
المشكلة الثانية: في تاريخ الفلسفة الإسلامية
طرح المشكلة: ما من شك أن التفكير الفلسفي قد بدأ عند اليونان، حيث تناولوا موضوعات العلم والنفس، والألوهية، وكانت لهم مواقف ومذاهب دافعوا عنها بأدلتهم، وهكذا تحدد مفهوم الفلسفة عندهم، وبهذا كانت الفلسفة اليونانية هي الصورة الأولى الكاملة للفكر الفلسفي الإنساني، فهل هذا يعني أن الفلسفة الإسلامية مجرد استمرار لهذه الحركة الفكرية أم أنها إنتاج ينتمي إلى البيئة الإسلامية؟ وهل لمفكري الإسلام فلسفة على شاكلة اليونان، وإن كانت لديهم فلسفة فما هي خصائصها ومناهلها؟ وفي أي مجال تتجلى؟ وما طبيعة العلاقة بين الدين كعقيدة والفلسفة كعقل؟.
أولا: ما ذا عن الفلسفة الإسلامية كفكر ديني أمام التراث الفلسفي اليوناني العالمي وجهود العرب في التعريف به؟.
الإجابة هي
* الفكر الإسلامي تشترك فيه ثلاث عبقريات أساسية:
** العبقرية اليونانية: يرى الباحثون أن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا امتداد للفلسفة الإغريقية التي تمت عن طريق الترجمة والنقل دون تعديل أو معارضة، اشتغل بها جمع من المفكرين في أواخر العهد الأموي، وأيام المأمون في العهد العباسي إثر تأسيس " بيت الحكمة" عام 813 م، وتشكيل لجنة من المترجمين أمثال: "حنين بن إسحاق"، "يحي بن البطريق"، "ثابت بن قرة"...
** العبقرية الإسلامية: فالفلسفة الإسلامية نشأت عن تفكير الجماعة الإسلامية في الكون وفيما بعده، وفي الإنسان فردا وجماعة وفق ما جاء به الإسلام، وهذا من خلال الأصول التي قام عليها الدين الإسلامي المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. قال تعالى: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب" (آل عمران الآية: 190). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق بها"، وقوله أيضا: "لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل".
** العبقرية العربية: * كونها لغة القرآن الكريم، ويذهب بعض المفكرين إلى أن لفظ "العربي" مرتبط بالأصل العربي على أساس الانتماء إلى السلالة العربية، في حين رأى البعض الآخر أن اللغة العربية هي لغة المتكلمين خاصة منهم النحاة (علماء النحو) وفقهاء اللغة، فتنصاع إليهم ألفاظها وتدين لهم قواعدها، كما أن لغة القرآن تحمل بين ثناياها تصانيف الفقهاء والعلماء والفلاسفة في معظمها، وهي تساهم في توحيد لسان المسلمين على تنوع أعرافهم وثقافاتهم، ويسر حفظ القرآن الكريم والأحاديث، إضافة إلى علوم الدين، والتاريخ الإسلامي نقل أن الفلسفة الإسلامية تحمل روحا عربية.
* من مظاهر الفلسفة الإسلامية علم الكلام:
هل علم الكلام تفكير أصيل يختلف عن الفلسفة؟ وإذا كانت هناك علاقة بينهما فما طبيعتها؟
يعرف "ابن خلدون" علم الكلام على أنه: "علم يتضمن الحجاج عن العقائد الدينية بالحجج العقلية والرد على المبتدعة والمنحرفين في الاعتقاد عن مذهب السلف الصالح وأهل السنة". وعرفه الإمام "أبو حامد الغزالي" في كتابه (المنقذ من الضلال) بقوله: "يقصد بعلم الكلام حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها من تشويش أهل البدع". فعلم الكلام ينطلق من مسلمات دينية ويستعمل الحجة العقلية للدفاع عن العقيدة وأهم فرقه: المعتزلة، الأشاعرة، المرجئة، الشيعة والماتريدية.
الأسباب الداخلية لظهور علم الكلام:
كان سياسيا بسبب الخلافات الحزبية بين السنة والشيعة والخوارج والمرجئة، والجدل الذي دار بين كل فريق في محاولة إقامة الحجة الشرعية والعقلية على الخصوم. أي أن الصراع انتقل من المستوى السياسي إلى المستوى العقائدي.
الأسباب الخارجية لعلم الكلام:
تمثلت في الجدل الكلامي (اللاهوتيات) الذي دار مع أهل الكتاب من المسيحيين واليهود، والرد على المشركين من الديانات المزدكية، الزرادشتية، الدهريون، المانوية...الخ، وإفحام الزنادقة والمبتدعة الذين يشككون في الدين.
خصائص علم الكلام بالقياس إلى الفلسفة (اليونانية والإسلامية):
الفرق بين علم الكلام والفلسفة:
* علم الكلام يتناول قضايا عقلية، ويطرحها داخل إطار عقائدي، فيما تتناولها الفلسفة وتطرحها طرحا حرا لا يخضع لأية سلطة.
* علم الكلام يستخدم العقل لخدمة الشرع، فالشرع أولا والعقل ثانيا، على أن هذا لا يعني أن منهجية البرهنة واحدة لدى الأشاعرة (النقل ثم العقل)، والمعتزلة (العقل ثم النقل) على الرغم من انطلاقهما من الإيمان بعقيدة التوحيد.
* يهدف علم الكلام بواسطة المناظرة والجدال إلى الدفاع عن العقيدة في وجه المشركين، في حين أن الفلسفة تسعى إلى إدراك الحقيقة المطلقة من غير احتكام لسلطة غير سلطة العقل. وكأن المتكلم محام مخلص يدافع عن قضية، أما الفيلسوف فبمثابة قاض نزيه لا يصدر حكما إلا إذا اطلع على ظروف القضية وتعرف على أبعادها.
ويمكن إبراز أهم نقاط الالتقاء والاتفاق بين علم الكلام والفلسفة فيما يلي:
* كلاهما يعتمد على المنهج العقلي، واستخدام المنطق في البرهان للوصول إلى الهدف المقصود.
* علم الكلام يناقش موضوعات كثيرة تتناولها الفلسفة في بحوثها الإنسانية والإلهية كمسألة الله وصفاته، التأمل في الكون...
* كلاهما يعبر عن طبيعة البيئة التي يعيشانها، وإبراز مشكلاتها كمرآة عاكسة لمعطيات واقعهما.
ملاحظة: تنوع الطرح الفلسفي عند المسلمين بين علم الكلام، والفلسفة المتشعبة بالأفكار الدينية، وأطروحات أخرى تتقاطع فيها الفلسفة بالتصوف مثل "ابن عربي"، وأحيانا الكلام بالتصوف مثل "الغزالي". وهذا الزخم والثراء يدل على أن الإبداع الفلسفي لا يرتبط بعرق من الأعراق كما ادعى "ارنست رينان"، كما لا يمكن إنكار إسهام المسلمين في القضايا العالمية الإنسانية بروح إسلامية فيها الكثير من الإبداع والابتكار.
ثانيا: خصوصية القضايا الفكرية التي يثيرها المفكرون الإسلاميون:التوفيق بين الدين والفلسفة
الإجابة هي كالتالي
* التوفيق بين الدين والفلسفة من حيث المحتوى:
جاء القرآن الكريم ليأمر بطلب العلم والتفقه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا يتم إلا بالعقل، ولهذا نجد أن معظم آيات القرآن الكريم موجهة إلى العقل تدعوه إلى النظر والبحث والتأمل في كل المخلوقات، ومعرفة الظواهر التي تحيط بالإنسان، فهي دعوة صريحة للتفلسف وجهت إلى العقل ذاته لقوله تعالى: "فلينظر الإنسان مما خلق". ولا يمكن للإنسان التفسير إلا باستعمال العقل. وقد ذكر القرآن العقل سبعا وأربعين مرة، وقد أخضعت الظواهر الكونية لأحكام العقل بلفظ (تعقلون) 24 مرة، لهذا يقول العلامة "ابن رشد": "لقد خلق الله لنا كتابين، كتاب محسوس وكتاب مقروء نقرأ في هذا ما نقرأ في ذاك".
* التوفيق بين الدين والفلسفة من حيث المبادئ:
نجد في الفلسفة الإسلامية محاولات متواصلة للتقريب بين المبادئ العقائدية والتأمل الفلسفي، وذلك لاشتراكهما في الدوافع الفكرية، والتشريعية، والضرورات الحضارية.
* حدود استعمال العقل في النص:
إن الحجر الأساس في الإسلام عقيدة التوحيد، كونها التسليم المطلق بوجود إله واحد لهذا العالم خلقه وهو مدبره وإليه يعود، وهذا شيء لا يقبل التأويل ولا النقاش، إضافة إلى وجود الله، فإنه يصف نفسه بالكثير من الصفات كالعادل والعليم...الخ، كما ينسب الله لنفسه أفعال وصفات كالاستواء والسمع والبصر، وجب تأويلها لتنزيهه سبحانه وتعالى عن كل نقص وتجسيم. ونعني بالتأويل عملية عقلية تخرج اللفظ من معناه إلى معنى مجازي، أو كما يقول "ابن رشد": "إخراج اللفظ عن الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز بتسمية الشيء بشبيهه أو سببه..". وتجدر الإشارة إلى أن هناك أربع فرق مارست التأويل كضرورة اجتهادية: الفقهاء، علماء الكلام، الفلاسفة ورجال الصوفية.
* حدود استعمال العقل في الغيبيات:
لم يتفق المسلمون على درجة استعمال العقل في النص، كما لم يتفقوا على مدى تدخل العقل في الغيبيات، فالقد صرح "أبو حامد الغزالي" بقصور العقل وعجزه في أمور الغيبيات التي يجب التصديق بها وحسب، تماما كما صنف "ابن خلدون" قضايا (كالآخرة، حقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية) في نطاق فوق نطاقه، أما من المفكرين الإسلاميين الذين أعملوا العقل في الغيبيات فنجد الفلاسفة وعلماء الكلام، لكن بمنهجيتين مختلفتين، ففي حين قام المتكلمون (المعتزلة والأشاعرة) بالنظر إلى صفات الله وأفعاله من حيث أنه (صانع حكيم) ثم نظروا في ذاته أخيرا، فإن الفلاسفة سلموا بقضية أنه (الموجود الواجب الوجود) وانصرفوا إلى آثار الله.
ثالثا: وماذا عن فرص التكامل بين الدين والتفكير الفلسفي؟
* التوفيق بين الدين والفلسفة من حيث الغاية:
إن محاولات الجمع بين الإسلام كتشريع رباني ونظام حياة مبني على التصديق والإيمان بأمور غيبية، والفلسفة اليونانية كنسق فكري مبني على المنطق والبرهان العقلي لا تحكمه أي سلطة دينية، لضرورة دفعتها الحاجة إلى الانفتاح الحضاري والبحث عن الحقيقة.
* بين عقلنة الدين وديننة العقل:
بين عقلنة الدين وديننة العقل...فرق بين من يدرك الدين بعقله وبين من يقولب العقل في قالب ديني موروث....حاله حال من قال..هدا ما الفنا عليه آباءنا...
* عقلنة الدين:
إخوان الصفا: وهي فرقة سياسية سرية، أرادت تغيير النظام السياسي الذي كان يستند على الشريعة، أين أصبح الدين مبرر لسياسة القمع، فأرادوا تأسيس مرجع مشترك يحكم في السياسة هو العقل، وبذلك يرون بأن الفلسفة فوق الشريعة، وأن السعادة عقلية، ولا سبيل إلى تطهير الشريعة التي "دنست بالجهالات إلا بالفلسفة... فإذا انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة، حصل الكمال"، وبذلك تتم عقلنة الدين، بمعنى أن الدين يصبح معقولا، لا يستند فقط على القلب، بل كذلك العقل.
* ديننة العقل:
إن الخوف من تصادم العقل والدين، دفع إلى إلحاق العقل بالدين وضبطه بحدود صارمة في نطاق الشرع، مما سبب إغلاق أبواب الاجتهاد.
* إمكانية التقريب بينهما من حيث الوصول إلى الحقيقة:
إن الصراع الفكري الذي حدث بين الفلاسفة الممثلين للتيار العقلي، والفقهاء الممثلين للتيار الديني طويل، ومساندة النظام السياسي كل مرة لأحد الطرفين، وفق ما تمليه عليه المصلحة، دفع الفيلسوف "ابن طفيل" إلى تأليف قصة "حي بن يقظان"، حيث يعرض قضية التكامل بين الفلسفة والدين، ووصول كلاهما في النهاية إلى الحقيقة، وتستهدف القصة في النهاية تبسيط الفلسفة وتعميمها وتبريرها لديهم مقابل موجة التكفير من طرف المحافظين، إلى جانب دفع حملة الفكر الفلسفي للعودة إلى الإيمان.
* إمكانية التقريب بينهما من حيث المنهج:
عندما يشتد الصراع بين الفلسفة والدين ويصل إلى درجة التكفير والعنف، كان يأتي زمن على محاولة التقريب التوفيق والتكامل. حيث لوحظ أن هناك تقارب بينهما في المنهج، فكلاهما يقوم على ضرورة إقامة الحجة والبرهان. يقول تعالى: "هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، رغم أن مواضيعهما مختلفة، فالشريعة تعالج أمورا لا تتعرض لها الفلسفة، وتعالج الفلسفة أمورا لا تتعرض لها الشريعة، فلا خلاف بينهما في ذلك، أما ما تعالجه كلتاهما فيخضع لأمرين: المسائل التي يتفقان فيهما لا مشكلة فيها، أما المسائل التي تتعارضان فيهما فيجب تأولها، لغاية التوفيق، ومن هنا تتقاربان وتتكاملان، فإن الوحي جاء ليتمم العقل، ويقوم العقل بشرح ما جاء به الشرع.
حل المشكلة:
تعتبر الفلسفة الإسلامية جزء لا يتجزأ من التراث الفكري العالمي، كونها انفتحت على الآخر (الفلسفة اليونانية كفكر عالمي)، وظلت محافظة على خصوصيتها، من حيث أنها تنهل أفكارها من مصدر أصيل، ألا وهو الإسلام كعقيدة عالمية أيضا، فتمكنت من مزج هذين الثقافتين، وأن تمثلهما وترعاهما بالتوفيق والتقريب والتكامل، وبما أن الفلسفة الإسلامية حاولت الإجابة بصدق عن إشكاليات عصرها، وهموم المجتمع الإسلامي، فإنها بالمقابل تبقى قابلة للاستمرار.