مفهوم الأساس لعلم العلاقات الدولية
نعني بمفهوم الأساس الفكرة المحورية التي يدور حولها علم العلاقات الدولية ، إنها الفكرة الأساسية أو الفكرة الأم التي تتمحور حولها موضوعات هذا العلم ،
وفي هذا الصدد يوجد اتجاهان فكريا رئيسيان هما :
الاتجاه الأول وهو اتجاه أمريكي تأسس على يد الأمريكي هانز مورجانثو،أما الاتجاه الثاني فهو فرنسي يأتي على رأسه عالم السياسة ريمون آرون.
وفيما يلي نعرض بإيجاز لهذين الاتجاهين الفكريين:
الاتجاه الأول:
وهو كما قلنا اتجاه أمريكي يأتي على رأسه عالم العلاقات الدولية الأشهر (هانز مورجانثو) مؤسس النظرية الواقعية في العلاقات الدولية ،ومؤدى هذا الاتجاه أن
علم العلاقات الدولية علم حديث النشأة لم يتسنى بعد وضع مفهوم أساس خاص به ،وبالتالي فلا حرج من نقل مفهوم أساس إليه من اقرب العلوم له وهو علم السياسة ،ذلك بأن علم السياسة يهتم بدراسة السلطة السياسية(مركز القوة داخل المجتمع) ، في حين يهتم علم العلاقات الدولية بدراسة العلاقات مابين سلطات (قوى دولية) ، وبالتالي فالعلمان هما من نفس الطبيعة ، وإذا كان(آرثر بنتلي 1908) قد حدد (القوة) كمفهوم أساس لعلم السياسة ، فإنه يمكن نقل مفهوم (القوة) بكل مضامينه وأبعاده من علم السياسة إلى علم العلاقات الدولية كمفهوم أساس لذلك العلم الناشئ. ويؤكد مورجانثو على فكرة محورية القوة في العلاقات الدولية بقوله:
*إن عالم السياسة الدولي(السياسة الدولية - العلاقات الدولية) شأنه شأن عالم السياسة الداخلي (السياسة داخل المجتمع) هو عالم الصراع من أجل القوة ومهما تكن مرامي ذلك العالم فإن القوة هي هدفه المباشر والملح والدائم .
ويضيف مورجانثو:
إن العلاقات الدولية هي علاقات (قوى) لا يحكمها إلا قانون واحد هو قانون (المصلحة القومية( . إذن :
*ثنائية التحليل في العلاقات الدولية حسب النظرية الواقعية:
هي ثنائية القوة والمصلحة القومية .
إن قدرة الدولة على تحقيق مصلحتها القومية تتناسب طردياً مع مستوى قوتها ، فالولايات المتحدة _ حسب مثال مورجانثو _ تستطيع أن تحقق مصالحها بصور فائقة لا تتأتى أبدا لدولة صغيرة مثل إمارة موناكو ...وهكذا.
فالقوة هي مفهوم الأساس لعلم العلاقات الدولية وهي صلب العلاقات الدولية
إذن دعامتا التحليل في العلاقات الدولية هما (القوة) و (المصلحة القومية).
وهكذا نكون قد خلصنا من الاتجاه الأول أما الاتجاه الثاني (الفرنسي) تابع مفهوم الأساس لعلم العلاقات الدولية
الاتجاه الثاني (الفرنسي)
يأتي على رأس هذا الاتجاه عالم السياسة الفرنسي ريمون آرون ، وهو يرفض فكرة نقل مفهوم أساس من علم السياسة إلى علم العلاقات الدولية ، نظرا للاختلاف في الطبيعة بين البيئة التي يعالجها علم العلاقات الدولية (البيئة الدولية) والبيئة التي يعالجها علم السياسة (البيئة الداخلية أو المجتمع السياسي) ، ويرى آرون ضرورة البحث عن مفهوم أساس يستقيم مع طبيعة البيئة الدولية التي هي محل دراسة علم العلاقات الدولية ، ويعتبر آرون أن هذا المفهوم هو (مفهوم وحدة السياسة الخارجية بوجهيها (أي الدبلوماسية والإستراتيجية) ، وهنا يتعين أن نعرف أولا بمفهوم السياسة الخارجية :
السياسة الخارجية للدولة
هي برنامج عمل (خطة) الدولة في المجال الدولي التي تتضمن أهدافها (المعبرة عن مصلحتها القومية) ، والوسائل التي تراها ملائمة لتحقيق هذه الأهداف. إنها – إذا_ فن اختيار الوسائل في خدمة الأهداف. بمعنى أن كل دولة تصيغ مصلحتها القومية في صورة مجموعة من الأهداف المحددة ، ثم تختار من الوسائل (ما يسمى أدوات السياسة الخارجية) ما تراه كفيلا بإبلاغها أهدافها.
السياسة الخارجية = برنامج عمل = أهداف + وسائل (أدوات)
أهداف السياسات الخارجية للدول
يتمثل أهم الأهداف التي تتبناها الدول في سياساتها الخارجية فيما يلي :
(1) حفظ الذات : أي بقاء الدولة واستمراريتها على الخارطة الدولية ، أو ما يمكن التعبير عنه بالأمن القومي للدولة ، وهذا الهدف هو أغلى وأهم أهداف الدول على الإطلاق ، وهو هدف لا يقبل المساومة بشأنه أو التناماوال بصدده.
(2) تحقيق المنعة : بمعنى الوصول إلى مستوى من القوة يردع الدول الأخرى من التفكير في مهاجمة الدولة.
(3) الثراء الاقتصادي : بمعنى تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية من خلال التعاملات الدولية.
(4) الحفاظ على هوية الدولة : بمعنى التصدي لأية محاولات خارجية تستهدف مقومات هوية الدولة وعلى رأسها لغتها القومية أو عقيدتها الدينية .
(5) نشر العقيدة السياسية (الأيديولوجية) أو الدينية في الخارج : وترتد أهمية هذا الهدف إلي أن الدول ذات العقيدة الواحدة غالبا ما تكون سياستها متقاربة إلي حد التحالف ، وبالتالي فإن انتشار عقيدة الدولة في الخارج يمثل إضافة إلى قوة الدولة (لاحظ سعي الولايات المتحدة إلي نشر نمط الحياة الليبرالي الخاص بها من خلال العولمة – تذكر نظرية ماكدونالدز).
(6) الظهور بمظهر الدولة المحبة للسلام : ذلك بأن أية دولة مهما كانت سياستها مرتكزة إلي العنف دائما ما تسعى إلي تبرير سياستها وإكسابها بعدا أخلاقيا باعتبارها سياسة تحارب الإرهاب أو تستهدف نشر الديمقراطية أو تعزيز قيم حقوق الإنسان ... إلخ .
وهكذا نكون قد عرضنا لأهم الأهداف في السياسات الخارجية للدول أدوات السياسة الخارجية
تلجأ الدول بغية تحقيق أهداف سياستها الخارجية إلي أربع أدوات (وسائل) رئيسية هي على التوالي :
أولا الدبلوماسية التقليدية :وتعرف بأنها :
_ فن التفاوض.
_ فن الإقناع .
_ فن تحقيق مصالح الدولة دونما إراقة دماء.
_ الوجه الناعم للقوة .
_ فن إدارة العلاقات الدولية على طاولة المفاوضات .
_ فن استخدام الذكاء واللباقة بما يحقق المصلحة القومية للدولة .
_ أسلوب الثعلب حسب تعريف مكيافيللي ( الرياء – المكر – الخديعة – الحيلة).
وتمثل الدبلوماسية غالبا أولى الوسائل التي تلجأ إليها الدول في سبيل تحقيق أهداف سياساتها الخارجية ، حيث تعد الأداة الأقل تكلفة بين أدوات السياسة الخارجية.
ثانيا الدبلوماسية الاقتصادية :
ويقصد بها استخدام الدولة لمقدراتها الاقتصادية في التأثير على الدول الأخرى وتوجيه سلوكها السياسي في الاتجاه الذي يخدم المصلحة القومية للدولة.
وبطبيعة الحال تستخدم هذه الدبلوماسية من قبل الدول الغنية في مواجهة الدول الفقيرة ، استنادا إلى قاعدة أن من لا يملك خبزه لا يملك قراره السياسي.
وللدبلوماسية الاقتصادية وجهان هما :
(1) الترغيب : ويعني منح المساعدات الاقتصادية للدول الممالئة (أي التي تتماشى سياساتها مع مطالب الدولة المانحة).
_ مثل تقديم الولايات المتحدة معونات ضخمة لباكستان نظير خدماتها للأمريكيين في حرب أفغانستان منذ عام 2003.
(2) الترهيب : ويعني منع المساعدات وفرض العقوبات على الدول المناوئة (المناهضة أو التي لا تتماشى سياساتها مع مطالب الدولة المانحة).
_ مثل فرض الولايات المتحدة للحظر الاقتصادي على كوبا منذ تحولها إلي الشيوعية على إثر انقلاب فيدل كاسترو عام 1959).
ثالثا الأداة الدعائية :
وتعني استخدام الدولة لمختلف وسائل وتقنيات الاتصال الدولي في التأثير بالرأي العام الأجنبي وتوجيهه بما يخدم المصلحة القومية للدولة ، سواء من خلال استمالة الرأي العام العالمي نحو التعاطف مع قضاياها ، أو بث الفرقة في صفوف الدول المعادية ، أو تحطيم الروح المعنوية لجيوش الأعداء ، أو زعزعة الاستقرار السياسي داخل هذه الدول من خلال إثارة الأقليات داخلها مثلا ....وهكذا.
وعملية الاتصال الدولي لها تتألف من أربعة عناصر رئيسية هي :
المرسل : أي الدولة القائمة على بث الدعاية .
الرسالة : أي المادة الدعائية المراد بثها .
الوسط : أي وسيلة نقل المادة الدعائية مثل الإذاعة ، أو التليفزيون، أو السينما أو الإنترنت ...إلخ.
المتلقي : وهو الطرف المستهدف بعملية الاتصال.
ولعملية الاتصال الدولي ثلاثة أنماط رئيسية هي :
الإعلام الدولي : ويسمى إستراتيجية الحقيقة حيث تنطوي الرسالة الإعلامية على مجموعة من الحقائق دون غيرها ، بهدف استمالة رأي عام ما نحو التعاطف مع قضية ما . مثل قيام الدول الإسلامية بإنتاج أفلام (لتذاع في الغرب) تظهر حقيقة الإسلام.
الدعاية الدولية : وهي تقدم رسائل تنطوي على حقائق وأكاذيب ، وكلما استطاعت الدولة إظهار الأكاذيب على أنها حقائق كلما كانت مادتها الدعائية ناجحة ( مثل الأفلام التي أنتجتها الولايات المتحدة بهدف تشويه النظام النازي في ألمانيا وبخاصة ما يتعلق منها بالهولوكست ).
الحرب النفسية : وهي أسلوب الكذبة الكبرى الذي يستهدف تحطيم الروح المعنوية للدول المعادية . مثال ذلك حديث الأمريكيين عن إستراتيجية الصدمة والذعر قبيل غزوهم للعراق عام 2003.
ومن أشهر الأجهزة الدعائية التي عرفها العالم المعاصر جهاز الدعاية النازي تحت قيادة جوبلز الذي كان يعرف الدعاية بأنها ذراع الحرب.
رابعا الأداة الإستراتيجية (الحرب) :
وهي الملاذ الأخير أمام الدولة لتحقيق ما فشلت في تحقيقه الوسائل الأخرى ، وتعرف الحرب – كما قلنا سابقا _ بأنها عملية القتل الجماعي الغائي المنظم الذي نستهدف به إجبار الخصم على الامتثال لإرادتنا.
_ إنها فن إيقاع الهزيمة بالآخرين بأقل الأعباء والخسائر( في صفوفنا).
_ إنها فن إراقة دماء الآخرين من أجل تحقيق مصالح الدولة .
_ إنها الوجه الخشن للقوة.
_ إنها أسلوب الأسد عند مكيافيللي ( القوة ، البطش ، العنف) ، إذ قال " إذا لم يفلح أسلوب الثعلب في خطف عنقود العنب فليسمع زئير الأسد) ، بمعنى أنه إذا لم تجد الدبلوماسية في تحقيق أهداف الدولة فلتدق طبول الحرب.
تابع قراءة الموضوع على الأسفل