نبذة عن الامام الغزالي والسياسة والخلافة من هو محمد الغزالي
الامام الغزالي والسياسة والخلافة
رؤية مقاصدية لواقع الأمة و كيانها
المقاصد الشريعة حاضرة في سياسة الأمة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
تقديم:
كثيرًا ما يستحسن الناس المواقف السياسية المعارضة، وكثيرًا ما يمدحون الثوار ويعتبرونهم أبطالاً، لكن هذا قد يكون كذلك إذا ما كان الرجل صاحب المواقف السياسية سياسيًّا فقط، أما إذا كان سياسيًّا فقيهًا وأصوليًّا، فإن الأمر مختلف تمامًا؛ إذ من شأن هذا الأخير تقدير الأمور بقدرها، والنظر إلى عواقب الأفعال ومآلاتها، والتمييز بين المصالح العامة والخاصة، وبين المصالح والمفاسد أيضًا... ومن هؤلاء السياسيين الفقهاء الأصوليين: الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، فمن هو هذا الرجل؟ وهل كانت له مشاركة في السياسة؟ وما هي مواقفه السياسية؟ وكيف نفرق بين مواقفه الظرفية الآنية، وبين مواقفه المبدئية الأصيلة؟
من هو الإمام الغزالي؟
الغزالي أبو حامد، إمام علَم، ونجم ساطع في سماء الحضارة الإسلامية، إنه الرجل الفذ الذي أسال الكثير من المداد، وأسيل حوله الكثير من المداد أيضًا، لقد فرض نفسه على العقول الباحثة عن الحق، المتعطشة إلى الحقيقة، يكفيه فخرًا أنه أثرى المكتبة الإسلامية وأغناها؛ إذ لو حاول الباحث أن يجمع بين مؤلفاته وما ألف عنه، لكانت مكتبته مكتبة غنية زاخرة، اشتهر في تاريخنا عدد غير قليل من العظماء، والغزالي أشهرهم وأعظمهم، وأبدع علماؤنا أيما إبداع، والغزالي أبدعهم، وعُرف في تاريخ أمتنا عددٌ ممن جمعوا علومًا شتى، والغزالي أجمعهم.
قال أحمد محمود صبحي: إن صح أن نتخير من كل حضارة علَمًا واحدًا مبرزًا فيها ممثلاً لها، كان أرسطو في اليونان، وديكارت أو كانط من الأوربيين المحدَثين، فلا أظن أن هناك مفكرًا يشغل نفس المكانة في الحضارة الإسلامية، وربما على نحو أكثر تمثلاً وأعمق تأثيرًا من الإمام حجة الإسلام، لقد كانت ثقافته خصبة متنوعة عميقة شاملة...[1]،
إنه الإمام الذي من حيث أتاه الباحث يعرفه، أطال الكلام ولما يوفه حقه، إنه علوم اجتمعت في عالم، وأشخاص اجتمعت في شخص واحد، اختلف حوله القدماء والمحدثون، بين ناقد ومادح، ومؤيد ومعارض...، لقي عناية كبيرة من الإسلاميين وغيرهم من الغربيين والمستشرقين، وهذه الدراسات المتنوعة والمتعارضة أحيانًا في أحكامها نجد فيها خصوبة أَثْرت الفكر الإسلامي أيما إثراء.
ليس غرضنا من هذا التعريف بنسب الغزالي وأصله ورحلاته؛ فهذا مما تزخر به المكتبة الإسلامية، فليراجع في مظانه، لكن يكفي أن نقول: إنه عاش في فترة متميزة، ويكفيه أنه تلميذ إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وأنه نال الحظوة كل الحظوة عند الوزير المتفرد نظام الملك، حتى انتدبه للتدريس في أشهر منارة علمية حينئذ، وهي المدرسة النظامية، ولد الغزالي سنة 450، وتوفي سنة 505 هـ.
1- الغزالي والأحداث السياسية في عصره:
قد يكون الحكم على شخص ما دون معرفة البيئة التي عاش فيها، وأحوالها السياسية، والاجتماعية، والثقافية، حكمًا يفتقد المزيد من التحقيق والمصداقية، يقول الدكتور مصطفى جواد: "...
ولذلك أوجب المؤرخون العصريون أن يكون لعصر الرجل أثر في سيرته، كائنًا ما كان"
[2]، وما دمنا نتحدث عن الإمام الغزالي وعصره، فإن هذه الأحداث تتلخص في أربعة محاور مهمة، وهي كالآتي:
• الصراعات والفتن بين أفراد الأسرة السلجوقية الحاكمة، وحركات التمرد.
• ثورات الحركات الباطنية الدموية والعنيفة.
• الصراعات المذهبية السُّنية فيما بينها، والفتن بين السُّنة والشيعة.
• الغزو الصليبي.
إن هذه الأحداث المهمة هي التي سيعيشها الغزالي، مما يعني أن إنتاجه العلمي سيأخذ بعين الاعتبار طبيعة الواقع الذي يعيشه الغزالي، فلا يمكن معرفة اتجاه فكره إلا في ظل الأحداث التي تقع من حوله، ولن أذكر كل التفاصيل المتعلقة بالموضوع، بل سأكتفي بأهم الأحداث فقط.
• الصراعات والفتن بين أفراد الأسرة السلجوقية الحاكمة:
لقد كان أمر الحكم في زمن الغزالي بيد السلاجقة الذين تعاقبوا على الحكم في ظل الخلافة العباسية، بحيث لم يبقَ للخلفاء العباسيين إلا ذكر أسمائهم على المنابر، ولكن بعض كتب التاريخ التي اطلعنا عليها تذكر لنا أن هذه الأسرة الحاكمة قد عرفت خلافات داخلية صعبة؛ من ذلك حروب التمرد التي قادها إبراهيم بنال ضد أخيه الحاكم طغرلبك الذي انتصر عليه بعد أن استنجد بأولاد أخيه داود، فغلبوه وأسروه في أوائل سنة 451هـ
.
وهذا الحدَث المهم تزامن مع حدث خطير جدًّا، وهو ثورة أبي الحارث أرسلان البساسيري الذي قاد حملات التمرد، حتى استطاع بمعونة الخليفة المنتصر الفاطمي أن يخلع الخليفة القائم من الحكم قبل أن يعيده السلطان طغرلبك إلى مكانه بعد أن قضى تمامًا على البساسيري الذي نشر الخوف والرعب في الناس
ثم بعد وفاة طغرلبك خلفه ابنه ألب أرسلان، فتوالت الفتن الداخلية بينه وبين ابن عمه قطلمش بن إسرائيل، وبعد وفاة ألب أرسلان تولى الحكم بعده ملكشاه، الذي واجه ثورة عمه قاورت
ثم بعد وفاة ملكشاه سنة 485هـ سيبدأ عصر السلاجقة العظام في الاندثار والزوال، ليبدأ عصر أبناء ملكشاه، الذي يعتبر عصر التشتت والصراعات والحروب الكثيرة بين الإخوة؛ حيث ستشغلهم تلك الحروب بأنفسهم، ليصفو المجال أخيرًا أمام الأطماع الخارجية، يقول المقريزي: "وملك بعده - أي: بعد ملكشاه - ابنه محمود وعمره أربع سنين، فقامت أمه تركان بتدبيره، فثار عليه أخوه بركياروق بن ملكشاه، واستبد بالأمر
ثم إن هذه المرأة - تركان - واصلت إثارة الفتن مرة أخرى؛ حيث استَعْدَتْ رجلاً يسمى إسماعيل بن ياقوتي بن داود، وهو خال بركياروق، وأرسلت إليه كربوقا وغيره من الأمراء في عسكر كثير مددًا له، ووعدته مقابل ذلك أن تتزوج به إن فعل ذلك، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل، حيث انهزم إسماعيل وعسكره، وانتهى أمره بقتله بعد أن كشف عن نواياه بقتل بركياروق، وذلك في سنة 486 هـ
وما إن انتهى بركياروق من فتنة أخيه محمود وأمه تركان خاتون، حتى خاض أقسى معاركه ضد عمه تتش، حيث تكبد خسائر جسيمة، ثم بعد ذلك ثار عليه أخوه محمد طالبًا الحكم والسلطنة، واستفحل إلى أن خطب له ببغداد سنة 492هـ، وكانت له - أي محمد - مع أخيه بركياروق خمس وقعات هائلة
لم يستمر السلطان بركياروق في الحياة طويلاً، فقد أصيب بالمرض بعد أن هده التعب من جراء هذه الحروب التي أنهكت قواه رغم حداثة سنه، فوافاه الأجل سنة 498هـ، وقد بلغ من العمر خمسًا وعشرين سنة، ووقع عليه اسم السلطنة وله اثنتا عشرة سنة، وقاسى من الحروب واختلاف الأمور ما لم يقاسِه أحد، فتفرد بالسلطنة أخوه محمد، ودان له المشرقان، وتصرف بيده زمام الزمان
لقد خلا الجو أمام محمد بن ملكشاه، رغم أن السلطان بركياروق كان قد عهد بالسلطنة إلى ابنه ملكشاه الثاني، الذي ما إن استقر على عرش السلطنة حتى تم عزله بعد سمل عينيه، ليتفرد محمد بن ملكشاه بزمام الأمور من سنة 498هـ إلى سنة 511هـ، هنالك ستتجه الأنظار إلى الخطر الأدهى، إنه الغزو الصليبي.
• ثورات الحركات الباطنية الدموية والعنيفة:
رافق هذه الأحداث السياسية المزرية ظهور خطر لا يقل فظاعة عما سبق، إنه خطر الباطنية الذين أسرفوا في القتل والفتك، وسموا بالباطنية؛ لأنهم يدعون - كما قال الغزالي -: أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظاهر مجرى اللب من القشر"
، وعرفوا أيضًا بالإسماعيلية، وغير ذلك من الألقاب، وظهرت هذه الطائفة إلى الوجود، واستفحل أمرها أيام حكم السلطان ملكشاه، ثم صاروا يتحركون على نطاق واسع، فقتلوا عددًا كثيرًا من الناس، ولم يميزوا بين العامة والخاصة، حتى قتَلوا العلماء والزهاد، والصلحاء والأمراء والوزراء؛ قال شمس الدين الذهبي: "قتلوا بأصبهان قاضي القضاة عبدالله بن أحمد الخطيبي، وقتلوا هناك أيضًا أبا العلاء صاعد بن محمد البخاري، وقيل: النيسابوري الحنفي المفتي، أحد الأئمة، عن خمس وخمسين سنة، وقتلوا فخر الإسلام أبا المحاسن عبدالواحد بن إسماعيل الروياني، شيخ الشافعية، وصاحب التصانيف، وشافعي الوقت
ولم يسلم من بطشهم حتى الوزير نظام الملك، فقتلوه طعنًا في قلبه، ثم بعده قتلوا ابنه فخر الملك وكان أكبر أولاده، وهو وزير السلطان سنجر بنيسابور، وكان صائمًا، فقتله باطني
، وبعد القتل والسلب والنهب والرعب، استولَوْا على قلاع كثيرة، منها: أصبهان، ألموت، وهي عاصمتهم، شاه ذر، خالنجان، تون، قاين، زوزن، خور، خوسف، شمكوه، استوناوند، أردهاب، جركوه، قلعة الناظر، قلعة التنبور، وقلعة خلادخان في فارس
لقد زعزعت هذه الحركاتُ الباطنية كيانَ الدولة الإسلامية، وأنهكتها؛ فقد كانت تهدد كل من لم يوافقها بالفتك، وانتهى الحال إلى الأمراء، ما بقي منهم مَن يجسر أن يمشي حاسرًا إلا بدرع تحت ثيابه