في تصنيف قصص وروايات تاريخية بواسطة
نبذة عن الامام الغزالي والسياسة والخلافة من هو محمد الغزالي

الامام الغزالي والسياسة والخلافة

رؤية مقاصدية لواقع الأمة و كيانها

المقاصد الشريعة حاضرة في سياسة الأمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

تقديم:

كثيرًا ما يستحسن الناس المواقف السياسية المعارضة، وكثيرًا ما يمدحون الثوار ويعتبرونهم أبطالاً، لكن هذا قد يكون كذلك إذا ما كان الرجل صاحب المواقف السياسية سياسيًّا فقط، أما إذا كان سياسيًّا فقيهًا وأصوليًّا، فإن الأمر مختلف تمامًا؛ إذ من شأن هذا الأخير تقدير الأمور بقدرها، والنظر إلى عواقب الأفعال ومآلاتها، والتمييز بين المصالح العامة والخاصة، وبين المصالح والمفاسد أيضًا... ومن هؤلاء السياسيين الفقهاء الأصوليين: الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، فمن هو هذا الرجل؟ وهل كانت له مشاركة في السياسة؟ وما هي مواقفه السياسية؟ وكيف نفرق بين مواقفه الظرفية الآنية، وبين مواقفه المبدئية الأصيلة؟

 

من هو الإمام الغزالي؟

الغزالي أبو حامد، إمام علَم، ونجم ساطع في سماء الحضارة الإسلامية، إنه الرجل الفذ الذي أسال الكثير من المداد، وأسيل حوله الكثير من المداد أيضًا، لقد فرض نفسه على العقول الباحثة عن الحق، المتعطشة إلى الحقيقة، يكفيه فخرًا أنه أثرى المكتبة الإسلامية وأغناها؛ إذ لو حاول الباحث أن يجمع بين مؤلفاته وما ألف عنه، لكانت مكتبته مكتبة غنية زاخرة، اشتهر في تاريخنا عدد غير قليل من العظماء، والغزالي أشهرهم وأعظمهم، وأبدع علماؤنا أيما إبداع، والغزالي أبدعهم، وعُرف في تاريخ أمتنا عددٌ ممن جمعوا علومًا شتى، والغزالي أجمعهم.

 

قال أحمد محمود صبحي: إن صح أن نتخير من كل حضارة علَمًا واحدًا مبرزًا فيها ممثلاً لها، كان أرسطو في اليونان، وديكارت أو كانط من الأوربيين المحدَثين، فلا أظن أن هناك مفكرًا يشغل نفس المكانة في الحضارة الإسلامية، وربما على نحو أكثر تمثلاً وأعمق تأثيرًا من الإمام حجة الإسلام، لقد كانت ثقافته خصبة متنوعة عميقة شاملة...[1]،

 إنه الإمام الذي من حيث أتاه الباحث يعرفه، أطال الكلام ولما يوفه حقه، إنه علوم اجتمعت في عالم، وأشخاص اجتمعت في شخص واحد، اختلف حوله القدماء والمحدثون، بين ناقد ومادح، ومؤيد ومعارض...، لقي عناية كبيرة من الإسلاميين وغيرهم من الغربيين والمستشرقين، وهذه الدراسات المتنوعة والمتعارضة أحيانًا في أحكامها نجد فيها خصوبة أَثْرت الفكر الإسلامي أيما إثراء.

 

ليس غرضنا من هذا التعريف بنسب الغزالي وأصله ورحلاته؛ فهذا مما تزخر به المكتبة الإسلامية، فليراجع في مظانه، لكن يكفي أن نقول: إنه عاش في فترة متميزة، ويكفيه أنه تلميذ إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وأنه نال الحظوة كل الحظوة عند الوزير المتفرد نظام الملك، حتى انتدبه للتدريس في أشهر منارة علمية حينئذ، وهي المدرسة النظامية، ولد الغزالي سنة 450، وتوفي سنة 505 هـ.

 

1- الغزالي والأحداث السياسية في عصره:

قد يكون الحكم على شخص ما دون معرفة البيئة التي عاش فيها، وأحوالها السياسية، والاجتماعية، والثقافية، حكمًا يفتقد المزيد من التحقيق والمصداقية، يقول الدكتور مصطفى جواد: "...

ولذلك أوجب المؤرخون العصريون أن يكون لعصر الرجل أثر في سيرته، كائنًا ما كان"

[2]، وما دمنا نتحدث عن الإمام الغزالي وعصره، فإن هذه الأحداث تتلخص في أربعة محاور مهمة، وهي كالآتي:

• الصراعات والفتن بين أفراد الأسرة السلجوقية الحاكمة، وحركات التمرد.

• ثورات الحركات الباطنية الدموية والعنيفة.

• الصراعات المذهبية السُّنية فيما بينها، والفتن بين السُّنة والشيعة.

• الغزو الصليبي.

إن هذه الأحداث المهمة هي التي سيعيشها الغزالي، مما يعني أن إنتاجه العلمي سيأخذ بعين الاعتبار طبيعة الواقع الذي يعيشه الغزالي، فلا يمكن معرفة اتجاه فكره إلا في ظل الأحداث التي تقع من حوله، ولن أذكر كل التفاصيل المتعلقة بالموضوع، بل سأكتفي بأهم الأحداث فقط.

• الصراعات والفتن بين أفراد الأسرة السلجوقية الحاكمة:

لقد كان أمر الحكم في زمن الغزالي بيد السلاجقة الذين تعاقبوا على الحكم في ظل الخلافة العباسية، بحيث لم يبقَ للخلفاء العباسيين إلا ذكر أسمائهم على المنابر، ولكن بعض كتب التاريخ التي اطلعنا عليها تذكر لنا أن هذه الأسرة الحاكمة قد عرفت خلافات داخلية صعبة؛ من ذلك حروب التمرد التي قادها إبراهيم بنال ضد أخيه الحاكم طغرلبك الذي انتصر عليه بعد أن استنجد بأولاد أخيه داود، فغلبوه وأسروه في أوائل سنة 451هـ

.

 

وهذا الحدَث المهم تزامن مع حدث خطير جدًّا، وهو ثورة أبي الحارث أرسلان البساسيري الذي قاد حملات التمرد، حتى استطاع بمعونة الخليفة المنتصر الفاطمي أن يخلع الخليفة القائم من الحكم قبل أن يعيده السلطان طغرلبك إلى مكانه بعد أن قضى تمامًا على البساسيري الذي نشر الخوف والرعب في الناس

 ثم بعد وفاة طغرلبك خلفه ابنه ألب أرسلان، فتوالت الفتن الداخلية بينه وبين ابن عمه قطلمش بن إسرائيل، وبعد وفاة ألب أرسلان تولى الحكم بعده ملكشاه، الذي واجه ثورة عمه قاورت

 ثم بعد وفاة ملكشاه سنة 485هـ سيبدأ عصر السلاجقة العظام في الاندثار والزوال، ليبدأ عصر أبناء ملكشاه، الذي يعتبر عصر التشتت والصراعات والحروب الكثيرة بين الإخوة؛ حيث ستشغلهم تلك الحروب بأنفسهم، ليصفو المجال أخيرًا أمام الأطماع الخارجية، يقول المقريزي: "وملك بعده - أي: بعد ملكشاه - ابنه محمود وعمره أربع سنين، فقامت أمه تركان بتدبيره، فثار عليه أخوه بركياروق بن ملكشاه، واستبد بالأمر

 ثم إن هذه المرأة - تركان - واصلت إثارة الفتن مرة أخرى؛ حيث استَعْدَتْ رجلاً يسمى إسماعيل بن ياقوتي بن داود، وهو خال بركياروق، وأرسلت إليه كربوقا وغيره من الأمراء في عسكر كثير مددًا له، ووعدته مقابل ذلك أن تتزوج به إن فعل ذلك، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل، حيث انهزم إسماعيل وعسكره، وانتهى أمره بقتله بعد أن كشف عن نواياه بقتل بركياروق، وذلك في سنة 486 هـ

 

وما إن انتهى بركياروق من فتنة أخيه محمود وأمه تركان خاتون، حتى خاض أقسى معاركه ضد عمه تتش، حيث تكبد خسائر جسيمة، ثم بعد ذلك ثار عليه أخوه محمد طالبًا الحكم والسلطنة، واستفحل إلى أن خطب له ببغداد سنة 492هـ، وكانت له - أي محمد - مع أخيه بركياروق خمس وقعات هائلة

 

لم يستمر السلطان بركياروق في الحياة طويلاً، فقد أصيب بالمرض بعد أن هده التعب من جراء هذه الحروب التي أنهكت قواه رغم حداثة سنه، فوافاه الأجل سنة 498هـ، وقد بلغ من العمر خمسًا وعشرين سنة، ووقع عليه اسم السلطنة وله اثنتا عشرة سنة، وقاسى من الحروب واختلاف الأمور ما لم يقاسِه أحد، فتفرد بالسلطنة أخوه محمد، ودان له المشرقان، وتصرف بيده زمام الزمان

 

لقد خلا الجو أمام محمد بن ملكشاه، رغم أن السلطان بركياروق كان قد عهد بالسلطنة إلى ابنه ملكشاه الثاني، الذي ما إن استقر على عرش السلطنة حتى تم عزله بعد سمل عينيه، ليتفرد محمد بن ملكشاه بزمام الأمور من سنة 498هـ إلى سنة 511هـ، هنالك ستتجه الأنظار إلى الخطر الأدهى، إنه الغزو الصليبي.

• ثورات الحركات الباطنية الدموية والعنيفة:

رافق هذه الأحداث السياسية المزرية ظهور خطر لا يقل فظاعة عما سبق، إنه خطر الباطنية الذين أسرفوا في القتل والفتك، وسموا بالباطنية؛ لأنهم يدعون - كما قال الغزالي -: أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظاهر مجرى اللب من القشر"

، وعرفوا أيضًا بالإسماعيلية، وغير ذلك من الألقاب، وظهرت هذه الطائفة إلى الوجود، واستفحل أمرها أيام حكم السلطان ملكشاه، ثم صاروا يتحركون على نطاق واسع، فقتلوا عددًا كثيرًا من الناس، ولم يميزوا بين العامة والخاصة، حتى قتَلوا العلماء والزهاد، والصلحاء والأمراء والوزراء؛ قال شمس الدين الذهبي: "قتلوا بأصبهان قاضي القضاة عبدالله بن أحمد الخطيبي، وقتلوا هناك أيضًا أبا العلاء صاعد بن محمد البخاري، وقيل: النيسابوري الحنفي المفتي، أحد الأئمة، عن خمس وخمسين سنة، وقتلوا فخر الإسلام أبا المحاسن عبدالواحد بن إسماعيل الروياني، شيخ الشافعية، وصاحب التصانيف، وشافعي الوقت

 ولم يسلم من بطشهم حتى الوزير نظام الملك، فقتلوه طعنًا في قلبه، ثم بعده قتلوا ابنه فخر الملك وكان أكبر أولاده، وهو وزير السلطان سنجر بنيسابور، وكان صائمًا، فقتله باطني

، وبعد القتل والسلب والنهب والرعب، استولَوْا على قلاع كثيرة، منها: أصبهان، ألموت، وهي عاصمتهم، شاه ذر، خالنجان، تون، قاين، زوزن، خور، خوسف، شمكوه، استوناوند، أردهاب، جركوه، قلعة الناظر، قلعة التنبور، وقلعة خلادخان في فارس

 لقد زعزعت هذه الحركاتُ الباطنية كيانَ الدولة الإسلامية، وأنهكتها؛ فقد كانت تهدد كل من لم يوافقها بالفتك، وانتهى الحال إلى الأمراء، ما بقي منهم مَن يجسر أن يمشي حاسرًا إلا بدرع تحت ثيابه

3 إجابة

0 تصويتات
بواسطة
 
أفضل إجابة
إذًا بالإضافة إلى الجانب العقدي لدى الباطنية، فقد كان لهم توجههم السياسي أيضًا، ولهم نظريات سياسية؛ كنظرية الإمام المستور الذي يتميز عن غيره بالعصمة، ومنه يتلقى التعليم؛ لذلك عظم شرهم، قال الدكتور مصطفى جواد: "كانت العقيدة الإسماعيلية النزارية من العقائد العدوانية السفاكة للدماء؛ لأنها قرنت بطلب الملك، والملك يستهين بالدماء، وينشر الدمار والبلاء..."

.

• الصراعات المذهبية السنية فيما بينها، والفتن بين السنة والشيعة:

أمام هذه الصراعات السياسية بين أفراد الأسرة السلجوقية الحاكمة، ثم الرعب الذي أحدثته الباطنية، حل بالدولة الإسلامية في تلك الحقبة مرض آخر فتاك هو أيضًا؛ إنه الفتن المذهبية والعقدية بين أتباع المذاهب، منها ما كانت السياسة قد استغلته، ومنها ما الحماسة المذهبية قد أشعلته، ومنها ما جمع بين الأمرين؛ الحماسة والسياسة

]،كان السلاجقة في بداية أمرهم على مذهب أبي حنيفة، وعملوا على نصرته بشدة، وأشدهم في ذلك هو الوزير عميد الملك الكندري، الذي كان حنفي المذهب، كثير التعصب لمذهبه، والذهاب مع عصبته

، لكن أمامه قام الوزير نظام الملك ببناء المدارس النظامية، ومنها المدرسة النظامية الكبرى ببغداد؛ لنصرة المذهب الشافعي، والعقيدة الأشعرية، وانتدب لذلك كبار العلماء، وأبرزهم الإمام أبو حامد الغزالي، الذي حاز لقب الشافعي الثاني، وهذا العمل لقي استحسانًا كبيرًا عند الخلفاء العباسيين؛ لأنهم كانوا شافعيين، وبذلك علا نجم المذهب الشافعي في الوقت الذي تراجع فيه المذهب الحنفي بوفاة آخر مناصر له، وهو الوزير عميد الملك الكندري، الذي استغل في حياته تحسين طغرلبك لعن المبتدعة على المنابر، فصار يلعن الأشاعرة باعتبارهم مبتدعة، ويقصدهم بكل أذى، حتى منعهم من الوعظ والتدريس، وعزلهم عن الخطابة بالجامع، واستعان ببعض المعتزلة الذين زعموا أنهم يقتدون بمذهب أبي حنيفة، واتخذوه سياجًا لهم، فحسنوا للسلطان الازدراء بمذهب الأشعري عمومًا، وبالأشعرية خصوصًا، فكانت فتنة طار شررها فملأ الآفاق، وطال ضررها فشمل خراسان والشام والحجاز والعراق، وعظم خَطْبُها وبلاؤها

، ووقعت قبل هذه الفتنة فِتن مذهبية عظمية أدت إلى لعن الأشعري - رضي الله عنه - فوق المنابر بأمر من السلطان طغرلبك سنة 445هـ، لكن تهمنا فقط حقبة الغزالي

 ووقعت بعد ذلك أحداث مؤسفة أخرى طبعها التعصب للمذهب، حتى تنابزوا بالتكفير والخروج من ربقة الإسلام، وعادة ما كان الحنابلة هم الذين يُشعلون مثل هذه الفتن، وهم جمهور أهل العراق وقتئذ، وكذلك الشافعية الأشعرية، وبعض الفرق الشيعية، واستمر ذلك سنوات تكاد تكون متواصلة متوالية، فمثلاً في سنة 447هـ وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة، بحيث لم يكن لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات

، ثم تفاقم الأمر بعد ذلك بحيث في سنة 469هـ وفي شوال وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشاعرة؛ وذلك أن ابن القشيري قدم بغداد فجلس يتكلم في الفاطمية، وأخذ يذم الحنابلة، وينسبهم إلى التجسيم، وساعده أبو سعد الصوفي، ومال معه أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك يشكو إليه الحنابلة، ويسأله المعونة عليهم، وذهب جماعة إلى الشريف أبي جعفر بن أبي موسى شيخ الحنابلة وهو في مسجده، فدافع عنه آخرون، واقتتل الناس بسبب ذلك... وثارت الفتنة

، وتكرر نفس العمل وبحدة أكثر سنة 470هـ؛ حيث وقعت فتنة أخرى بين الحنابلة وفقهاء النظامية، وحمي لكل من الفريقين طائفة من العوام، وقتل منهم نحو عشرين رجلاً، وجرح آخرون، ثم سكنت الفتنة

 

أما الفتنة بين السنة والروافض فكانت مستديمة، لا تكاد تخمد نيرانها حتى تعود فتشتعل من جديد، حتى كان الصلح بين هذين الفريقين يعتبر من العجائب والغرائب، وانظر مثلاً إلى ابن تغري بردي وهو يقول في سنة 442هـ: "كان من العجائب أنه وقع الصلح بين أهل السنة والرافضة، وصارت كلمتهم واحدة"

 ولم تسلم حقبة من حقب التاريخ في ذلك العصر من هذه الفتن، وهذه سنة 443هـ، وقعت الحرب بين السنة والروافض؛ فقُتل من الفريقين خلق كثير؛ وذلك أن الروافض نصبوا أبراجًا وكتبوا عليها: محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر؛ فأنكرت السنة إقران عليٍّ مع محمد صلى الله عليه وسلم في هذا، فنشبت الحرب بينهما، واستمر القتال بينهم... فقتل رجل هاشمي فدفن عند الإمام أحمد، ورجع السنة من دفنه، فنهبوا مشهد موسى بن جعفر بن منصور، وأحرقوا ضريح موسى الجواد، وقبور بني بُوَيهٍ، وقبور من هناك من الوزراء، وأحرق قبر جعفر بن المنصور، ومحمد الأمين، وأمه زبيدة، وقبور كثيرة، وانتشرت الفتنة، وتجاوزا الحدود، وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضًا بمفاسد كثيرة

ولا يمكن استصغار هذه الفتن بين هذين الفريقين؛ لأنهم بلغوا إلى أن لم يقدر على منعهم الخليفة ولا السلطان

 وهكذا تفاقمت المواجهات المذهبية مدة طويلة، إضافة إلى ما سبق من صراعات وثورات سياسية قاسية جدًّا، أضعفت الدولة الإسلامية حتى استنفدت قواها، كل ذلك سيفتح الباب على مصراعيه أمام أفجع الأطماع الخارجية، ألا وهي الحروب الصليبية على الشرق الإسلامي.

 

• الغزو الصليبي.

يطلق هذا الاسم على الحملات التي وجهها المسيحيون في أوربا إلى الشرق، من القرن الخامس إلى القرن السابع الهجري، الحادي عشر إلى الثالث عشر ميلادي، للاستيلاء على بيت المقدس من أيدي المسلمين، وتمتاز هذه الحروب في بدايتها على الأقل بصفتها الدينية، وانعدام كل المسميات، وبعد استعدادات ومشاورات، قام الصليبيون بشن غارات على المسلمين، فملكوا مدينة أنطاكية بعد حصار شديد عام 491هـ، وفي سنة 492 هـ يقول ابن كثير: "في يوم الجمعة لتسع بقين من شعبان أخذت الفرنج - لعنهم الله - بيت المقدس شرفه الله، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، فقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين... فكانت فاجعة أصيب بها المسلمون، بحيث ندب الخليفةُ الفقهاءَ إلى الخروج إلى البلاد؛ ليتربصوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيلٍ وغيرُ واحد من أعيان الفقهاء، فصاروا في الناس، فلم يُفِدْ ذلك شيئًا

 بينما استمر الصليبيون في القتل والاحتلال، وهذا ما أنتجته الانقسامات والفِتَن الداخلية.

 

هذه الحقبة المتوترة بامتياز هي التي نشأ فيها أبو حامد الغزالي من مولده إلى وفاته، فماذا كان موقفه مما كان يدور من حوله؟ أين هو موقفه من كل هذا؟ الذين عرَفوا أن الغزالي كان صوفيًّا كثيرٌ منهم تخيلوه في زاويته بعيدًا عن الواقع، وكثير من الذين تحدثوا عن مشاركته السياسية قالوا: "إنه كان يبرر الأمر الواقع، وكان يعيش تحت كنف حكام يتجاذبونه ويستغلونه، ويلقون عليه أوامرهم لمحاربة هيئات ومدارس مناهضة لهم"

 

الغزالي والسياسة/ الغزالي والفكر المقاصدي:

لم يكن الغزالي سياسيًّا فقط حتى نحاكمه سياسيًّا، كما يفعل بعض السياسيين اليوم، ولكنه كان فقيهًا أصوليًّا، والفقيه طبيب المجتمع، يصف له الدواء الشافي، ويقترح له الحلول الناجعة، ففقيهٌ كالغزالي لا تجده متهورًا يجر المجتمع إلى ما لا تحمد عقباه، ولا تجده منزويًا عن العالم - أقول هذا مع الأخذ بعين الاعتبار عزلته الأخيرة - يقول الدكتور محمد عبدالمعز نصر: "وقبل أن نعرض لفكر الإمام الغزالي السياسي، يجب أن نذكر أن الرجل لم يكتب ما كتب وهو جالس في برج عاج، وإنما أتيحت له تجربة نادرة؛ فلقد كان الفقيه أو عالم السياسة أو "المستشار القانوني" في حاشية ملوك السلاجقة ووزرائهم"

 كما كان ينظر إلى الواقع بعين الفقيه الذي يستحضر المصالح والمفاسد ويوازن بينها، والذي ينظر إلى المقاصد والمرامي والمآلات، وكان ينظر إلى الغايات الكبرى، تخبرنا بذلك كتبه عامة، ما ألفه في الأصول وغيرها، ومن العدل قراءة كل كتب المؤلف قبل إصدار الأحكام عليه، ولست أروم إثبات تمكن الغزالي وسبقه إلى مقاصد الشريعة، فهذا من شأن أهله، ومن أهل هذا الشأن نذكر الدكتور محمد عبدو في رسالته الرائعة "الفكر المقاصدي عند الإمام الغزالي"؛ فقد اجتهد وأفاد وأجاد، هذا من الناحية النظرية، وما أريده من خلال هذا البحث المتواضع هو إثبات تجليات هذه النظريات على الواقع من كتب الغزالي، وهو ما يعبر عن التطبيق العملي لنظرة الغزالي المقاصدية إلى الأمور، ولم يكن سلبيًّا كما يراه البعض.

 

كثيرًا ما نجد الغزالي يتحدث عن نظام الأمة واستقرارها، إما تصريحًا، وإما تلميحًا، وهذا مما سبق إليه، وإن جاء من بعده من العلماء الفحول من فصل هذا الأمر تفصيلاً، كما فعل الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله، من المعاصرين، ولتوضيح ذلك نتحدث عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل، وذلك من خلال استخلاص مواقفه من بعض أمور السياسة:

الإمامة ضرورة لنظام الدنيا والدين:

تحتل الإمامة مكانة مرموقة عند الغزالي، بحيث يعتبرها من أشرف الصناعات، بل إن الخلافة والإمارة من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص؛ ذلك أن مقاصد الخلق مجموعة في نظام الدين والدنيا، ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا

.

 

ونظرًا لأهمية الإمامة وضرورة الإمام المطاع في الحياة الاجتماعية، نرى أن نورد نصًّا للغزالي على طوله، يوضح ويجمع كل ما يتعلق برأيه في حاجة الناس إلى الإمام المطاع، بحيث إن كل ما ذكره بخصوص الموضوع في باقي كتبه، لا يخرج عما أثبته في هذا النص؛ إذ يقول فيه: "... إن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع، فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن، بموت السلاطين والأئمة، وأن ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان آخر، ودام الهرج، وعم السيف، ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حيًّا، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف؛ لهذا قيل: الدين والسلطان توءمان؛ ولهذا قيل: الدين أس، والسلطان حارس، وما لا أس له فمهدومٌ، وما لا حارس له فضائعٌ، وعلى الجملة لا يتمارى العاقل في أن الخَلْق على طبقاتهم، وما هم عليه من تشتت الأهواء وتباين الآراء، لو خلوا وآراءَهم، ولم يكن رأي مطاع يجمع شتاتهم، لهلكوا من عند آخرهم، وهذا لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع، يجمع شتات الآراء، فبان أن السلطان ضروري في الفوز بسعادة الآخرة، وهو مقصود الأنبياء قطعًا، فكان وجوب نصب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه، فاعلم ذلك

 وحكى في مشروعية ذلك إجماع الأمة.

 

موقف الغزالي من شرعية حكام عصره:

يصعب حقًّا تبيُّن موقف الغزالي من شرعية حكام عصره إذا اقتصرنا على كتاب واحد من كتبه دون الجمع بينها، ثم عرضها على واقعه الذي عاش فيه، ولكننا سننظر في كتابيه: فضائح الباطنية، وإحياء علوم الدين؛ فإن في هذين الكتابين تبايُنًا واضحًا، لكنه رغم ذلك ليس تناقضًا؛ فإن له ما يبرره.

 

أ/ كتاب فضائح الباطنية: صرح الغزالي في مقدمة الكتاب بأنه لم يزل مدة المقام بمدينة السلام متشوقًا إلى أن يخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية ضاعَف الله جلالها، ومد على طبقات الخَلق ظلالها

، ولما طلب منه المستظهر أن يؤلف هذا الكتاب سارع إلى ذلك وقال: "... وكيف لا أسارع إليه وإن لاحظت جانب الأمر ألفيته أمرًا مبلغه زعيم الأمة، وشرف الدين، ومنشؤه ملاذ الأمم أمير المؤمنين، وموجب طاعته رب العالمين

، وساق في الكتاب أدلة عقلية وشرعية للاستدلال على شرعية الخليفة المستظهر، والكتاب كله أدلة وبراهين على أنه قامت له الشوكة في أقطار الأرض، حتى لو ظهر باغٍ يظهر خلافًا في هذا الجناب الكريم، ولو بأقصى الصين أو المغرب، لبادروا - أي كافة الخلق - إلى اختطافه وتطهير وجه الأرض منه، متقربين إلى الله تعالى

، وحتى عندما تحدث الغزالي عن شروط الاستخلاف، فإنه تنازل عن استكمال بعضها في الخليفة المستظهر العباسي، وهي عنده عشرة: ست منها خلقية لا تكتسب، وأربع تكتسب، أما الست الخلقية فحاضرة بلا شك، وهي:

البلوغ - العقل - الحرية - الذكورية - نسب قريش - سلامة حاسة السمع والبصر

.

 

وأما عن الصفات الأربع المكتسبة عند الغزالي، فهي:

1/ النَّجدة: مراد الأئمة بالنَّجدة: ظهور الشوكة، وموفور العدة، والاستظهار بالجنود، وعقد الألوية والبنود، والاستمكان بتضافر الأشياع والأتباع من قمع البغاة والطغاة، ومجاهدة الكفرة...

 ولكن الملاحظ أن الغزالي - بحكم واقعه التاريخي - تسامح في استكمالها في ذات الإمام، بل قد يكتفي بتوافرها فيمن يتقدم لتنفيذ كلمته باسمه، يقول الغزالي: ".. لا حرج عليه لو باشَرها بنفسه، فإذا استغنى بجنوده وأتباعه عن المقاساة للحرب، جاز له الاقتصارُ على مجرد الرأي والتدبير... كيف لا وقد سخَّر الله رجال العالم وأبطالهم لموالاة هذه الحضرة وطاعتها حتى تبددوا في أقطار الدنيا...

.

 

2/ الكفاية: ومعناها: التهدي لحق المصالح في معضلات الأمور، والاطلاع على المقتصد عند تعارض الشرور؛ كالعقل الذي يميز الخير عن الشر وينصف به الجمهور

، وهنا نجد نفس الملاحظة، بحيث بين الغزالي أن القدر المشروط في هذه الصفة موجود في الإمام المستظهر، ويتسامح كذلك في وجودها في الإمام كاملة؛ حيث أدخل في ذلك رأي الوزير كذلك، فكفاية الإمام تتضمن كذلك كفاية الوزير، كما تضمنت النجدة عنده نجدة أنصاره من الترك

 لذلك فهي حاصلة؛ لتوافر ركنين، أحدهما: الفكر والتدبير، وشرطه الفكرة والذكاء، وهذه خصلة تميز فيها المنصور إمامته والمفروض طاعته...، وثانيهما: المشاورة، وهي الخصلة التي أمر الله بها نبيه؛ إذ قال: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]

 وهذا ما حصل فعلاً كما قال الغزالي: إذ وفق الله الإمام بتفويض مقاليد أمره إلى وزيره الذي لم يقطع ثوب الوزارة إلا على قده، حتى استظهر بآرائه السديدة في نوائب الزمان، ومعضلات الحدثان، ومراعاة مصالح الخلق في حفظ نظام الدين والملك...

، وبهذين الأمرين اللذين اجتمعا للإمام فهم مطلوب الكفاية؛ فإن مقصودها إقامة تناظم الأمور الدينية والدنيوية.

 

3/ الورع: وهذه أعزُّ الصفات، وأجلها، وأولاها بالرعايات، وأجدرها، وهو وصف ذاتي لا يمكن استعارته، ولا الوصل إلى تحصيله من جهة الغير... والورع هو الأساس والأصل... فالحمد لله الذي زين أحوال الإمام الحق المنصور إمامته بالورع والتقوى حتى أوفى فيه على الغاية القصوى

 وبين مظاهر هذه الصفة في جمع أموال الدولة، وتوزيعها في مصارفها الخاصة، وهي:

1): المرتزقة من جنود الإسلام.

2) علماء المسلمين وفقهاؤهم الذين يحرسون الدين بالدليل والبرهان كما يحرسه الجنود بالسيف والسنان.

3) محاويج الخلق الذين قصرت بهم ضرورة الحال.

4) المصالح العامة من عمارة الرباطات والقناطر والمساجد والمدارس

4/ العلم: يشترط الغزالي العلم في الخليفة؛ حيث يقول: لو ذهب ذاهب إلى أن بلوغ درجة الاجتهاد لا يشترط في الإمامة لم يكن في كلامه إلا الإعزاب عن العلماء الماضين
0 تصويتات
بواسطة
، فإنكار صفة العل-م والاجتهاد يعتبر عند الغزالي خرقًا للإجماع، كما قال شيخه الجويني: "من شرائط الإمام أن يكون من أهل الاجتهاد، بحيث لا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث، وهذا متفق عليه"

 لكن الغزالي في نفس الوقت يتسامح في هذه الخصلة، على اعتبار أن ما عدا شرط النسب الذي ثبت بالنص، فإن باقي الشروط أخذت من الضرورة والحاجة الماسة في مقصود الإمامة إليها؛ لقوله بعد ذلك: إن رتبة الاجتهاد ليست مما لا بد منه في الإمامة ضرورة، بل الورع الداعي إلى مراجعة أهت أهل العلم فيه كاف، فإن كان المقصود ترتيب الإمامة على وفق الشرع، فأي فرق بين أن يعرف حكم الشرع بنظره أو باتباع أفضل أهل زمانه؟

 

لكن الغزالي رحمه الله قال ما قال بذكاء العالم البصير المدرك لواقعه الذي يموج بالفتن، ففي نفس السياق أطلق عبارات الاحتياط في كلامه، فكثيرًا ما يذكر: المصلحة والمقصود والفتن...، ومباشرة بعد هذا يقول: "أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد لمنفك عن رتبة الاجتهاد، وقامت له شوكة، وأذعنت له الرقاب، ومالت إليه القلوب، فإن خلا الزمان عن قرشي مجتهد يستجمع جميع الشروط وجب الاستمرار على الإمامة المعقودة إن قامت له الشوكة، وهذا حكم زماننا، وإن قدر ضربًا للمثل حضور قرشي مجتهد مستجمع للورع والكفاية وجميع شرائط الإمامة واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرض لإثارة فتن واضطراب أمور لم يجُزْ لهم خلعه والاستبدال به.... وإن الثمرة المطلوبة من الإمامة تطفئة الفتن الثائرة في تفرق الآراء المتنافرة، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة، وتشويش نظام الأمور، وتفويت أصل المصلحة في الحال؛ تشوُّفًا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد؟! وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق بسبب عدول الإمام عن النظر إلى تقليد الأئمة بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه....

 وهذا التسامح من الغزالي يدل على بُعد نظره، وتقديره للعواقب، وغيرته على وحدة الأمة ونظامها، إنه تسامح ظرفي وآني اقتضاه الحال.

 

ب/ كتاب إحياء علوم الدين: في هذا الكتاب المهم جدًّا نجد الغزالي يدعو إلى إحداث القطيعة مع الحكام والسلاطين في عصره؛ حيث حذر من الدخول عليهم ومخالطتهم، ويرى أن ذلك مذموم في الشرع؛ فالداخل على السلطان متعرض لأن يعصي الله تعالى، إما بفعله أو بسكوته، وإما بقوله وإما باعتقاده، فلا ينفك عن أحد هذه الأمور

؛ وذلك أنه يدخل عليهم في دور مغصوبة يحرم دخولها بغير إذن الملاَّك، وحتى وإن كان الظالم في أرض حلال، فلا تزال الحرمة واقعة؛ لِما يتطلبه الدخول من الركوع والسجود، والقيام والخدمة، وهي ما يعبر عن خدمة الظالم بسبب ولايته، التي هي آلة ظلمه، ثم إن التواضع للظالم معصية... وذلك غير جائز إن كان أغلب أموالهم حرامًا... ثم إن الداخل على السلاطين يسكت على ما يراه من تبذير في فرش الحرير وملبوساته على الظلمة وغلمانهم... وأطنب الغزالي في ذكر الفتاوى المحرِّمة لكل أشكال مخالطة السلاطين الظلمة - كما كان يراهم - حتى ذكر أن الأسلم والأفضل أن يعتزلهم صاحب العلم، فلا يراهم ولا يرونه، بل عليه أن يعتقد بُغضَهم على ظلمهم، ولا يحب بقاءهم، ولا يثني عليهم، ولا يستخبر عن أحوالهم، ولا يتقرب إلى المتصلين بهم..

.

 

إن الغزالي من خلال هذه الأحكام المبثوثة في كتاب إحياء علوم الدين، كان يتطلع إلى تحرير الفقهاء من قبضة السلاطين الذين كانوا يستغلونهم لأهدافهم، بحيث إنه لما انتهى عصر الخلافة الراشدة النموذجية، صارت هذه الخلافة بأيدي خلفاءَ غير مستحقين لها؛ إذ لا علم لهم بالفتاوى والأحكام، مما اضطرهم إلى الاستعانة بالفقهاء في جميع أحوالهم؛ لاستفتائهم في مجاري الأمور، وكان الغزالي يشيد بعصر الصحابة والتابعين ممن كانوا يهربون من مخالطة السلاطين، وأشاد أيضًا بمن بقي على هدي هذا الرعيل، فجاء بعدهم صنف من علماء الدنيا يطلبون العلم لغرض نيل العز، ودرك الجاه من قِبل السلاطين، فأكبوا على دراسة العلوم التي يحبِّذُها هؤلاء السلاطين، فصاروا يحكمون الفروع والخلافيات والمجادلات طلبًا للولايات والصلات، فمنهم من حرم، ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخلُ من ذل الطلب ومهانة الابتذال، بل إنه بسبب ذلك أصبحت بعض العلوم تنتشر أكثر من غيرها؛ نظرًا لمكانتها في عين السلاطين، ويورد الغزالي كلمة يصف فيها علماء الدنيا الذين يتكلم عنهم ويقول:

 "فأصبح الفقهاء - بعد أن كانوا مطلوبين - طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم، إلا من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله"، "ويبذلون المال والجاه، ويتحملون أصناف الذل في خدمة السلاطين لاستطلاق الجرايات".

 

لذلك فعلى عالم الدين أن يكون مستقصيًا عن السلاطين، مبتعدًا عنهم، لا يعاملهم البتة، ما دام يجد السبيل إلى الابتعاد عنهم والفرار منهم، وعليه أن يحترس لدينه من ذلك، حتى وإن جاؤوا إليه؛ إذ المخالط لا يخلو عن تكلف في تطييب خاطرهم، مع أنهم ظلمة، إذًا يجب على كل متدين الإنكار عليهم، وتضييق صدرهم بإظهار ظلمهم، وتقبيح فعلهم، ويقطع الغزالي الطريق أمام كل من يفكر في مخالطة السلاطين فيقول: وعلى الجملة فمخالطتهم مفتاح للشرور، وعلماء الآخرة طريقهم الاحتياط.

 

إن هذه الأحكام الفقهية التي حاولنا تقريبها - حسب ما ذهب إليه الغزالي - تتعلق بجانب تبادل الزيارات والمخالطات فقط، على أن الغزالي قد فصل القول في مسألة أخرى وثيقة الصلة بالموضوع، وهي تدلنا وتقربنا بشكل واضح كذلك من موقف الغزالي من مسألة الشرعية، شرعية سلاطين عصره، الذين وجه إليهم خطابه المباشر، إنها مسألة أموال السلاطين وإداراتهم وأعطياتهم... فدعا بشكل صريح إلى التنزه عن أموالهم، وفصل القول في ذلك، وبيَّن بشكل دقيق أحكام أموال السلاطين من حيث مصدرها الذي أُخذت منه، ثم خلص في نهاية المطاف إلى الحثِّ على الورع في أموال السلاطين، وذلك على أربع درجات:

 

1- ألا يأخذ شيئًا من أموالهم أصلاً، كما فعل أهل الورع من السلف؛ صحابة وتابعين.

 

2- أن يأخذ مال السلطان، ولكن إنما يأخذ إذا علم أن ما يأخذه من جهة حلال؛ فاشتمال يد السلطان على حرام آخرَ لا يضره.

 

3- أن يأخذ مال السلطان ليتصدق به على الفقراء أو المستحقين؛ لأنه إن لم يأخذه استعان به السلطان على ظلمه؛ فأخذُه إذًا وتفرقتُه أولى من تركه في يده.

 

4- ألا يتحقق أنه حلال ولا يفرق، بل يستبقي، ولكن يأخذ من سلطان أكثر ماله حلال

 

ثم إن الغزالي قد تناول بعض المسائل الأخرى المتعلقة بالسلاطين، منها:

• المعاملة معهم حرام؛ لأن أكثر مالهم حرام، فما يأخذ عوضًا فهو حرام.

• الأسواق التي بنوها بالمال الحرام تحرم التجارة فيها، ولا تجوز سكناها.

• معاملة قضاتهم وعمالهم وخدمهم حرام كمعاملتهم، بل أشد.

• المواضع التي بناها الظلمة والرباطات والمساجد والسقايات، ينبغي أن يحتاط فيها

 

إن هذه الأحكام الصارمة التي أصدرها الغزالي في كتاب الإحياء، إنما أصدرها لأنه كان يرى أنهم تولوا السلطة والخلافة قهرًا وغلبة، ودون استحقاق، وانظر إليه وهو يقول صراحة: "اعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله تعالى... فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام...

 

قد يظهر لكثير من الناس أن الغزالي متناقض في أقواله، كلا، فليس كذلك، ولكنه الوعي التاريخي، والإدراك التام للواقع الذي يعيش فيه، فاستفرغ كل وسعه في حماية وحدة الأمة، وكان ينظر إلى مقاصد الإمامة، بمعنى أنها إن كانت تؤدي إلى الأمن والنظام، حتى وإن كانت ناقصة، فما يجنى من ورائها من المنافع هو المطلوب، خصوصًا وأن الظروف لم تكن تساعد على الثورة على الحكام؛ نظرًا لهشاشة الدولة، والفتن الداخلية، والأطماع الخارجية، انظر إليه وهو يقول:

"والقول الوجيز أنَّا نراعي الصفات والشروط في السلاطين؛ تشوفًا إلى مزايا المصالح، ولو قضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأسًا، فكيف يفوت رأس المال في طلب الربح؟[52]"، وهنا يحضر الغزالي الأصولي، ذو الفكر المقاصدي، الذي يتكلم عن وعي، ولا يغامر وراء تجارة غير مأمونة الربح، وبالتالي فالحفاظ على رأس المال أولى، وهنا نستنطق نصًّا فريدًا نفيسًا - على طوله - يلخص حقيقة موقف الغزالي السياسي في كتابه: الاقتصاد في الاعتقاد؛ حيث يقول: "فإن قيل: فإن كان مقصود الإمامة حول ذي رأي مطاع يجمع شتات الآراء، ويمنع الخلق من المحاربة والقتال، وحملهم على مصالح المعاش والمعاد، فلو انتهض لهذا الأمر مَن فيه الشروط كلها سوى شروط القضاء، ولكنه مع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقولهم، فماذا ترون فيه، أيجب خلعه ومخالفته أم تجب طاعته؟ قلنا: الذي نراه ونقطع أنه يجب خلعه إن قدر على أن يستبدل عنه من هو موصوف بجميع الشروط من غير إثارة فتنة وتهييج قتال، وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته، وحكم بإمامته؛ لأن ما يفوتنا من المصارفة بين كونه عالِمًا بنفسه أو مستفتيًا من غيره دون ما يفوتنا بتقليد غيره إذا افتقرنا إلى تهييج فتنة لا ندري عاقبتها، وربما يؤدي ذلك إلى هلاك النفوس والأموال، وزيادة صفة العلم إنما تراعى مزية وتتمة للمصالح، فلا يجوز أن يعطل أصل المصالح في التشوق إلى مزاياها وتكملاتها... فإن قيل: فإن تسامحتم بخصلة العلم لزمكم التسامح بخصلة العدالة، وغير ذلك من الخصال، قلنا: ليست هذه مسامحة عن اختيار، ولكن الضرورات تبيح المحظورات، فنحن نعلم أن تناول الميتة محظور، ولكن الموت أشد منه، فليت شعري من لا يساعد على هذا ويقضي ببطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها وهو عاجز عن الاستبدال بالمتصدي لها، بل هو فاقد للمتصف بشروطها، فأي أحواله أحسن: أن يقول: القضاة معزولون والولايات باطلة، والأنكحة غير منعقدة، وجميع تصرفات الولاة في أقطار العالم غير نافدة، وإنما الخلق كلهم مقدمون على الحرام، أو أن يقول: الإمامة منعقدة، والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار؟! فهو بين ثلاثة أمور؛ إما أن يمنع الناس من الأنكحة والتصرفات المنوطة بالقضاء، وهو مستحيل ومؤدٍّ إلى تعطيل المعايش كلها، ويفضي إلى تشتت الآراء، ومهلك للجماهير والدهماء، أو يقول: إنهم مقدمون على الأنكحة والتصرفات، ولكنهم مقدمون على الحرام، إلا أنه لا يحكم بفسقهم ومعصيتهم لضرورة الحال، وإما أن نقول: يحكم بانعقاد الإمامة مع فوات شروطها لضرورة الحال، ومعلوم أن البعيد مع الأبعد قريب، وأهون الشرين خير بالإضافة، ويجب على العاقل اختياره، فهذا تحقق هذا الفصل، وفيه غنية عند البصير عن التطويل، ولكن من لم يفهم حقيقة الشيء وعلته، وإنما يثبت بطول الألفة في سمعه، فلا تزال النفرة عن نقضه في طبعه؛ إذ فِطام الضعفاء عن المألوف شديد، عجز عنه الأنبياء، فكيف غيرهم

هنا نرى ملامح القواعد الأصولية يطبقها الغزالي على أرض الواقع، من ذلك مثلاً:

• الضرورات تبيح المحظورات، (تناول الميتة محظور، لكن الموت أشد منه).

• عبارات تؤدي معنى قواعد أصولية، وهي قوله: ومعلوم أن البعيد مع الأبعد قريب - وأهون الشرين خير بالإضافة، ويجب على العاقل اختياره - حكم الحال والاضطرار.

 

وهذا ما اصطلح عليه الأصوليون بـ:

• الضرر يُدفَع بقدر الإمكان - الضرر لا يزال بمثله - الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف - يختار أهون الشرين - يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما.

 

كما نجد كذلك ملامح الفكر المقاصدي فيما تقدم عندما نراه يتحدث عن مصالح المعاد والمعاش، وكذلك عندما ميز بين أصل المصالح ومزاياها وتكملاتها، وهنا تظهر عظمة الغزالي في فهمه لمقاصد الشرع عندما ينظر إلى عواقب الأمور، عند استبدال الإمام الذي لا يستوفي الشروط، فإن ما يفوتنا فيه دون ما يفوتنا بتقليد غيره إذا افتقرنا إلى تهييج فتنة لا ندري عاقبتها، ومن ملامح ذلك أيضًا قوله بعدم جواز تعطيل أصل المصالح في التشوف إلى مزاياها وتكملاتها، فإن كانت الإمامة تؤدي إلى المصلحة العظمى، وهي الوحدة والنظام وإبرام العقود والأنكحة والقضاء، فقد حصل المقصود الضروري، وما بقي يستكمل عندما تسمح الأحوال بذلك.

 

هذا هو موقف الغزالي، موقف لا يتضح إلا بقراءة تكاملية لكتبه الثلاثة على الأقل (إحياء علوم الدين، فضائح الباطنية، والاقتصاد في الاعتقاد)؛ لأنه هو أيضًا يشير في كل واحد منها إلى الآخر، ومع قراءة هذه الكتب لا بد من قراءة الواقع الذي كتبت فيه، وكذا الحقبة التاريخية.

 

لم يكن الغزالي غائبًا عن الأمة، ولا غائبًا عن الوطن والمواطن، وإلا فلمن كتب كل ما كتب مما ذكرنا ومما لم نذكر خشية الإطالة؟ إلا أن الغزالي نظرًا لما أوتيه من العلوم المختلفة، كان ذا مناهج متعددة، ففي كتاباته تراه يتنقل من منهج إلى منهج؛ فمن المنهج التاريخي إلى المنهج الوعظي، إلى المنهج الفقهي الأصولي، ثم إلى المنهج المقاصدي، كل ذلك أكسبه بصيرة حادة، وبُعد نظر قلما تجده عند كثير من الناس، إن منهجه التاريخي جعله يعي حركة الأحداث وخصائصها، ويدرك الفرص المناسبة وغير المناسبة للتغيير السياسي، كما أن منهجه الفقهي الأصولي جعله يُخضع التغيير السياسي للقواعد الفقهية والأصولية، فيميز بين التغيير الذي يحقق المصلحة والتغيير الذي لا يحققها، أو يزيد في مفسدة لا ندري عاقبتها، فأي غيرة على الأمة أشرف من غيرة الغزالي؟ كما أن منهجه المقاصدي جعله ينظر إلى الإمامة والسياسة على أنها الأساس الأعظم الذي يحقق المصلحة الكبرى في الدنيا والآخرة، ألا وهي انتظام أمور الدين، الذي هو سبب الفلاح في الدنيا والآخرة، ولا ينتظم الدين إلا بانتظام أمور الدنيا، ولا تنتظم أمور الدنيا إلا بسلطان قاهر يجمع الآراء، ثم إن الغزالي من خلال ما تقدم اتضح لنا أنه يميز بين الوسائل، التي يمكن التساهل في بعضها مؤقتًا، وبين المصالح الكبرى التي تقصد منها، من ذلك مثلاً: أن شروط الإمامة قصد بها وجود إمام مطاع يحمي النظام والأمن، فلا ينبغي التشديد في طلب هذه الشروط إلا إذا كان من الممكن تحقيق مصلحة أعظم مما عليه الناس، وإلا فلا.

 

خلاصة:

إن الغزالي - حسب ما سبق - كان يدافع عن مؤسسة الخلافة، وليس عن الخليفة عينه (يشرح ذلك الدكتور محمد أمزيان في كتابه: في الفقه السياسي: شرحًا وافيًا لا بد من الرجوع إليه)؛ فإن بقاء مؤسسة الخلافة - على ضعفها - هو المصلحة الكبرى التي تضمن استمرارية الحياة في الأمة الإسلامية؛ لأنه كان يدرك تمامًا ما كان يهدد هذه المؤسسة من الداخل والخارج.

وأما رسائله إلى حكام عصره، التي حثهم فيها على العدل، ورفع الظلم عن الناس، وأحيانًا تكون هذه الرسائل قاسية لاذعة، فسيأتي حينها إن شاء الله تعالى.
0 تصويتات
بواسطة
موقف الإمام الغزالي من الصليبيين

بقي أن نشير إلى أمر مهم، وهو موقف الغزالي من الصليبين، فكثيرًا ما تحامل عليه الدارسون والمفكرون، كأنه هو الذي أدخل الصليبيين إلى ديار المسلمين، ومن هؤلاء المنتقدين الدكتور زكي مبارك في كتابه: الأخلاق في نظر الغزالي، وغيره من الأساتذة والباحثين، وقد جمع الدكتور سميح عاطف الزين أقوالهم - وهو واحد منهم - في كتابه: الإمام الغزالي؛ حيث يقول: "... وقعت تلك الأحداث الداهمة، الخطرة، ولم تصدر أي دعوة للجهاد... فأين كان العلماء، والراسخون في العلم؟ أولم يكن أبو حامد الغزالي حجة الإسلام في ذلك العصر؟ فلماذا لم يلقِ خطبةً، ولم يصدر فتوى، ولم يقم بأي عمل يدعو فيه إلى الجهاد؟ لا ندري... ولكن من الثابت أن تلك الأحداث - رغم ما رافقها - لم تحرك عاطفة الغزالي بشيء، ولم تحدث فيه أي تأثير ديني.. بل على العكس، كان علمه الصوفي هو كل شيء عنده، وهذا العلم - على ما يبدو - لا يدعو إلى الجهاد وفق المفاهيم الإسلامية، بل يدعو إلى صَرْف الناس عن الجهاد من خلال تفاسيرَ لبعض آيات القرآن الكريم، أقل ما يقال فيها: إنها تفاسيرُ صوفية غريبة شاذة عن أي فهمٍ لكتاب الله المبين

..ثم قال: أرأيت أية عقلية تسيطر عليهم حتى في أدق الساعات وأحرجها، كما هي الحال عند الإمام الغزالي؟ الصليبيون يُذِلُّون المسلمين، ويحتلُّون بيت المقدس، وشيخ الصوفية قابع في خَلوته، صامت كصمت الجدران من حوله، غافل على تخيلاته الوفية كغفلة أهل الكهف، لا تعنيه شؤون المسلمين وأحوالهم بشيء، وكيف تَعنيه وهو لم يحرك ساكنًا

وبعد ذلك ذكر أقوال الآخرين وقال: كما يصفه الأستاذ عبدالرحمن الوكيل في كتابه: (هذه هي الصوفية) عندما يقول: "هذا بيت المقدس سقط في يد الصليبيين عام 492 هجرية، والغزالي الزعيم الصوفي الكبير على قيد الحياة، فلم يحرك فيه هذا الحادث الجلل شعرةً واحدة، ولقد عاش بعد ذلك 13 عامًا؛ إذ إنه مات سنة 505 هجرية، فما ذرفت عيناه دمعة واحدة، ولا استنهض همم المسلمين ليذودوا عن القِبلة الأولى، بينما قال غيره:

أحل الكفر بالإسلام ضيمًا

يطول عليه للدِّين النَّحي

وكم مِن مسجد جعلوه دَيرً

على محرابه نُصب الصليب

دم الخنزير فيه لهم خُلوف

وتحريق المصاحف فيه طِيبُ

ويعلق على هذا الدكتور محمد جميل غازي في مقابلة لصحيفة (المسيرة) فيقول: "أهَزَّ هذا الصريخ الموجع زعامة الغزالي؟ كلا؛ إذ كان عاكفًا على كتبه يقرر فيها أن الجمادات تخاطب الأولياء؟ ويتحدث عن مراتب الولاية؛ كالصحو والمحو دون أن يقاتل أو يدعو غيره إلى قتال.

و(ابن عربي) و(ابن الفارض) الزعيمان الصوفيان الكبيران عاشا في عهد الحروب الصليبية، فلم نسمع واحدًا منهما شارك في قتال، أو دعا إلى قتال، أو سجل في شِعره أو في نثره آهة حرَّى على الفواجع التي نزلت بالمسلمين، بل كانا يقرران للناس أن الله هو عين كل شيء، فليدع المسلمون الصليبين، فما هم إلا الذات الإلهية متجسدة في تلك الصور"،

ثم يسوق الدكتور غازي شهادتين، إحداهما للدكتور عمر فروخ، والثانية للدكتور زكي مبارك، فيقول

 الدكتور عمر فروخ يقول: ألا يعجب القارئ إذا علم أن حجة الإسلام الإمام الغزالي شهد القدس تسقط في أيدي الإفرنج الصليبين وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك، ولم يشر إلى هذا الحدث العظيم، ولو أنه أهاب بسكان العراق وفارس وبلاد الترك لنصرة إخوانهم في الشام لنفر مئات الألوف منهم للجهاد في سبيل الله، ولوفَّر إذًا على العرب والمسلمين عصورًا مملوءة بالكفاح، وقرونًا زاخرة بالجهل والدمار، وما غفلة "الغزالي" عند ذلك إلا أنه كان في ذلك الحين قد انقلب صوفيًّا، أو اقتنع - على الأقل - بأن الصوفية سبيل من سبل الحياة.

 

وكذلك عاش "عمر بن الفارض" و"محيي الدين بن عربي" في إبان الحروب الصليبية، ولم يرِدْ في كتابات أحدهما ذكر لتلك الحروب، وبينما كان الإفرنج يغيرون على المنصورة في مصر سنة 1259 م، تنادى الصوفيون لقراءة "رسالة القشيري"،

 وأخذوا يتجادلون في كرامات الأولياء (الشعراني 1 14)، أما الدكتور زكي مبارك فكتب يقول: "أتدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة عن الحروب الصليبية؟ لتعرف أنه بينما كان "بطرس الناسك" يقضي ليله ونهاره في إعداد الخطب وتحبير الرسائل يحثُّ أهل أوروبا على احتلال أقطار المسلمين، كان الغزالي غارقًا في خَلوته، منكبًّا على أوراده المبتدعة، لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى..

."... أليس حقًّا ما نقلته تلكما الشهادتان الصادقتان اللتان ما صدرتا إلا عن نفسينِ صافيتين، وعقليتين واعيتين ما رامتا إلا الحق سبيلاً، والدعوة إلى الحقيقة منهجًا، فوضعتا أبا حامد في إطاره الصوفي الذي لا يحفِل بمفهوم للجهاد في سبيل الله، ولا يأبه للخراب أو الدمار في بيوت الله، أو للتقتيل في عباد الله؛

 إذ كان همه أن يكتب بما يتفتَّقُ عنه عقله؛ ليهدم من هدم، ويكفر من كفر، ويعذر من عذر!!.. فأي فائدة من علم لا تنفع به البرية؟ وأي فضل لعالم يتعاطى مع واقع حياته، ولا يحمل هموم قومه وأمته؟! إنه هروب من الواقع ما فعله الإمام وحجة الإسلام الغزالي، وفرار من مباشرة الحياة التي دعا إليها الإسلام على أسس صحيحة، وفي مقدمتها الجهاد للذود عن كرامة المسلمين، وديارهم وأعراضهم، ووجودهم[

.

 

هذه تُهَمٌ توجَّهُ إلى الغزالي وحده، مع أننا نعلم يقينًا أن ذلك الزمان لم يكن فيه الغزالي وحده، بل كان معه رجال آخرون، ولكن وإن كان للغزالي متَّهِمون، فلم يحرم - رحمه الله تعالى - من المدافعين، وقبل أن نذكر آراء الذين يدافعون عنه نتساءل:

• ماذا كنا سنفعل لو كنا مكانه؟ وماذا كنا سنقول؟

• ماذا كان جواب الغزالي لو سألناه مباشرة؟

• ما مصداقية محاكمة شخص بيننا وبين وفاته حوالي عشرة قرون؟

• هل لاتهام الأموات وتفسقيهم وتبديعهم قيمة علمية؟

• هل حقًّا لم يقل شيئًا؟ أم لم يصِلْ إلينا شيء مما قال؟

 

وهنا أفتح قوسًا فأقول - على سبيل الاستئناس -: إن كثيرًا من العلماء لم يسلموا من العبث بكتبهم، إما زيادة بحيث يُقوَّلون ما لم يقولوا، وإما بالحذف؛ وذلك بكتمان حقٍّ قالوه، وكلاهما زور، قول ما لم يكن، وكتمان ما قيل، وشيخنا الغزالي نفسه لم يسلم من هذه المشكلة، وقد أورد الدكتور محمد عبدو في كتابه: الفكر المقاصدي عند الإمام الغزالي فصلاً خاصًّا في الدلالة على أن تصانيف الغزالي قد أدخل فيها أشياء مستبشعة ليس منها، وبدأه بقول الغزالي: …

هاج حسد الحساد، ولم يجدوا أي طعن مقبول، غير أنهم لبسوا الحق بالباطل، وغيروا كلمات من كتاب المنقذ من الضلال، وكتاب مشكاة الأنوار، وأدخلوا فيهما كلمات كفر، وأرسلوا إليَّ حتى أكتب خط الإجازة (…)

 من كتابه فضائل الأنام من رسائل حجة الإسلام ص45، ثم قال محمد عبدو: ولا يبعد أن تكون هذه الزيادات غير مقتصرة على الكتب المذكورة … وهذا خطب جليل لم ينتبه إليه بعض أفاضل العلماء…)

، وهنا أجدني أمام محاولات صادقة للدفاع عن الغزالي، والتي مهما تكن قوتها فإنها على الأقل محاولات أكثر تأدبًا مع رجال الأمة من السلف الصالح.

 

الأستاذ مأمون غريب يدافع عن الغزالي، حيث يقول: "ولقد عاب البعض على الغزالي أنه لم يقل رأيه في الحملات الصليبية التي غزت فلسطين... واستنتج بعضهم أنه كان مشتغلاً بالتصوف.. وابتعد عن السياسة، وخاصة بعد قتل نظام الملك الذي حزن عليه حزنًا شديدًا..، وأغلب الظن أن الغزالي ربما كان أعلن رأيه ولم يسجل..؛ لأنه كان في مرحلة الزهد والانقطاع عن الدنيا، أو أنه عبر عن رأيه ولم يصل إلينا، ولكن من خلال دراسة هذه الشخصية ودورها الفكري الخطير يمكن أن نقول

 ان الغزالي كان ساخطًا عليهم؛ لأنهم كانوا خطرًا جسيمًا على الإسلام.. وليس من المعقول ولا من المنطقي أن يرضى حجة الإسلام عن جيوش جاءت لتقضي على الإسلام.. المنطق يقول ذلك.. وتاريخ الرجل ومواقفه تقول ذلك.. فهو لم يخشَ أحدًا عندما تحدَّث عن مهمة الحاكم ودوره في الحفاظ على أمن المواطن.. وعلى رعاية الدين.. ومسؤوليته عما يصيب رعاياه من ظلم من يوكلهم بالحكم عن المسلمين.. كما دخل معاركَ حادة، وخاض مساجلاتٍ رهيبةً مع الفلاسفة وعلماء الكلام.. انطلاقًا من إيمانه العميق أن دوره هو حماية الإسلام من كل من حاول أن يوقع ضررًا بالعقيدة باسم الفلسفة، أو تحت أي اسم آخر كان يراه الغزالي بعيدًا عن الإسلام، ورُوح الإسلام، فليس من المعقول إذًا أنه آثر الصمت إزاء الحملات الصليبية المذكورة التي جاءت من أجل كنوز الشرق.. وسحر الشرق، لا من أجل حماية الصليب، كما كانوا يزعمون

اسئلة متعلقة

...