الأصل الثاني من القدوة مبادئ ونماذج
حسن الخلق:إذا كان الصلاح يتوجه إلى ذات المقتدى به ليكون صالحًا في نفسه قويمًا في مسلكه؛ فإن حسن الخلق يتوجه إلى طبيعة علاقته مع الناس، وأصول تعامله معهم، وإليه الدعوة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم: [ ...وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ] رواه الترمذي والدارمي وأحمد.
والكلام في حسن الخلق واسع متشعب وتحاول أن نحصر عناصره الكبرى في خِلالٍ خمس:
الصدق : تبرز أهمية الصدق وعظم أثره في مسلك القدوة في قوله صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ...] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه وأحمد .
وقد سأل هرقل أبا سفيان عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : ' هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ' .
وما أنجى الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك إلا صدقهم مع الله ومع رسوله، حين ظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه، ولقد نادى الله سبحانه عباده المؤمنين في ختام قصتهم بقوله:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[119] {[سورة التوبة]. وهل رأيت سوأة أزري ممن يتسنم مواقع القيادة والقدوة بينما ترمقه الألحاظ، وتشير إليه الأصابع بالخيانة والكذب. وما كان للتهريج والادعاء، والهزل أن يغني فتيلاً عن أصحابه. وفي الحديث: [ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ] رواه أحمد.
الصبر : الأزمات إذا استحكمت والضوائق إذا ترادفت لا دفع لها ولا توقّي ـ بإذن الله ـ إلا بالصبر ذلك أن : [ ...الصَّبْرُ ضِيَاءٌ...] رواه مسلم . ومَنْ أَوْلَى من الرجل الأسوة بتوطين نفسه على احتمال المكاره من غير ضجر، والتأني في انتظار النتائج مهما بعُدت. والصبر من معالم العظمة المحمودة وشارات الكمال العالي ودلائل التحكم في النفس وهواها وهو عنصر من عناصر الرجولة الناضجة. فأثقال الحياة وأعباؤها لا يطيقها الضعاف المهازيل والحياة لا ينهض بأعبائها ورسالتها إلا الأكفاء الصبارون، وقد استحقت فتنة من بني إسرائيل الإمامة والريادة بصبرهم وحسن بلائهم:} وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[24] {[سورة السجدة]. وأدركت بني إسرائيل حالة استحقوا بها ميراث الأرض المباركة، وكان درعهم في ذلك الصبر:} وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ...[137] {[سورة الأعراف]. ولهذا فإن نصيب ذوي القدوة والأسوة من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من مواهب وما تحملوا من مشاق، يجسد هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أَشَدّ النَّاس بَلَاء الْأَنْبِيَاء ثُمَّ الْأَمْثَل فَالْأَمْثَل] رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي.
الرحمة : الرحمة عاطفة حية نابضة بالحب للناس، والرأفة بهم، والشفقة عليهم . والرحمة المذكورة هنا يقصد بها: الرحمة العامة لكل الخلق، فيلقى المسلم الناس قاطبة وقلبه لهم بالعطف مملوء، إن الرحمة الخاصة قد تتوفر في بعض الناس فيرّق لأولاده حين يلقاهم ويهشّ لأصدقائه حين يجالسهم، ولكن الرحمة المطلوبة من القدوة أوسع من ذلك وأرحب: [...ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ...] رواه الترمذي وأبو داود وأحمد.
بل إن الرحيم تنال رحمته الحيوان من غير البشر، والله يثيب على هذه الرحمة، ويغفر بها الذنوب. فالذي سقى الكلب لما رآه يأكل الثرى من العطش؛ شكر الله له فغفر له، المرأة البغي من بني إسرائيل سقت كلبًا كان يطيف حول بئر في يوم حار قد دلع لسانه من العطش فنزعت له خفها وسقته؛ فغفر لها. ولئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب .
التواضع : جبلت النفوس على كره من يستطيل عليها ويستصغرها، كما جبلت على النفرة ممن يتكبر عليها ويتعالى عنها، حتى ولو كان ما يقوله حقًا وصدقًا. إن قلوبهم دون كلامه مغلقة، وصدورهم عن إرشاده ووعظه موصدة . إن التواضع خلق يكسب صاحبه رضا أهل الفضل ومودتهم، ومَنْ أحق بهذا الخلق من رجل القدوة، فهو أنجح وسيلة على الائتلاف.. إن ابتغاء الرفعة، وحسن الإفادة من طريق التواضع هو أيسر الطريق وأوثقها؛ ذلك أن التواضع في محله يورث المودة، فمن عمر فؤاده بالمودة امتلأت عينه بالمهابة.
ويلتحق بهذا الأمر ويلتصق به: حديث المرء عن نفسه، وكثرة الثناء عليها، فذلك شيء ممقوت، يتنافى مع خلق التواضع وإنكار الذات، فينبغي لرجل الدعوة ومحل القدوة ألا يدَّعى شيئًا يدل على تعاليه. بل إن حق عليه أن يعرف أن كل ما عنده من علم أو مرتبة هو محضُ فضل الله عليه فليتحدث بفضل الله لا بفضل نفسه، فإذا أدرك الناس منه ذلك؛ فتحوا له قلوبهم، وتحلّقت حوله نفوسُهم قبل أجسادهم، ووقع وعظّه وتوجيهه منهم موقع القبول والرضا، ونال من الحظوة على قدر إالرفق : والرفق صفة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي رحم الله العباد بها؛ فاصطفاه لها، يقول الله عز وجل:} فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159]{ [سورة آل عمران]. نعم لقد أدرك الله برحمته أن يمنن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويستميت في هدايته، فأرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، وسكب في قلبه من العلم والعمل، وفي خلقه من الإحسان والبر، وفي طبعه من اللين والرفق، وفي يده من الكرم والندى ما جعله أزكى عباد الله قلبًا، وأوسعهم عطفًا، وأرحبهم صدرًا، والينهم عريكة . هذا بعض نعت محمد صلى الله عليه وسلم، المجتزأ من قوله تعالى:} وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[4]{ [سورة القلم]. وهذا إيراد من قبس النبوة في باب الرفق، وبيان أثره:
يقول عليه الصلاة والسلام : [إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ] رواه مسلم-واللفظ له- والترمذي وأحمد . وقال مخاطبًا عائشة رضي الله عنها: [عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ فَإِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ] رواه مسلم.
وقد يحسن أن نخصّ الدعاة المقتدى بهم بخطاب عن الرفق أخذًا من نهج السلف؛ إذ أن هذا الميدان- ونحن نعيش الصحوة الإسلامية وأجواءها المباركة- نحتاج فيه إلى مزيد عناية، وفقه، وترفق:
يقول عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو على المنبر : 'يا أيها الناس لا تُبغّضوا الله إلى عباده، فقيل كيف ذلك أصلحك الله؟ قال: يجلس أحدكم قاصًّا- أي: واعظاً- فيقول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه، ويقوم أحدكم إمامًا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه'.
وَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:' يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ' قَالَ: ' أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا' رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
يعلق على هذا الحافظ بن حجر في الفتح بقوله: ' وَيُسْتَفَاد مِنْ الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب تَرْك الْمُدَاوَمَة فِي الْجِدّ فِي الْعَمَل الصَّالِح خَشْيَة الْمَلَال , وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَاظَبَة مَطْلُوبَة لَكِنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ : إِمَّا كُلّ يَوْم مَعَ عَدَم التَّكَلُّف . وَإِمَّا يَوْمًا بَعْد يَوْم فَيَكُون يَوْم التَّرْك لِأَجْلِ الرَّاحَة لِيُقْبِل عَلَى الثَّانِي بِنَشَاطٍ , وَإِمَّا يَوْمًا فِي الْجُمُعَة , وَيَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال وَالْأَشْخَاص , وَالضَّابِط الْحَاجَة مَعَ مُرَاعَاة وُجُود النَّشَاط '.
والرفق ذو ميادين فسيحة ومجالات عريضة، فرفق مع الجهال: إما جهل علم، أو جهل تحضر، ولقد رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالأعرابي الذي بال في المسجد، وتركه حتى فرغ من بوله وأمر أصحابه بالكف عنه وألا يقطعوا عليه بوله فلما فرغ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن المساجد لم تبن لهذا وإنما هي لذكر الله والصلاة .
ومن الذين يخصون بمزيد من الترفق: المتبدئون في الإسلام والعلم وطريق الاهتداء. والغفلة في هذا الجانب قد تؤدي إلى فتنة وانعكاس في المقصود، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن : [ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا...] رواه البخاري ومسلم.
يقول ابن حجر:'والمراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليُقبل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حُبب على من يدخل فيه وتلقاه بانبساط وكانت عاقبته غالبًا الازدياد بخلاف ضده'.
وينبغي أن يتمثل القدوة في هذا الباب الرفق بمجالسيه، فيتحمل من كان منهم ذا فهم بطيء،ويسع بحلمه جفاء ذا الجهالة، لا يعنف السائل بالتوبيخ القبيح فيخجله، ولا يزجر فيضع من قدره.
الأصل الثالث : موافقة القول العمل : يقول الله عز وجل:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3] {[سورة الصف]. الصدق ليس لفظة تخرج من اللسان فحسب، ولكنه صدق في اللهجة واستقامة في المسلك، الباطن فيه كالظاهر، والقول فيه صنو العمل .. هذا جانب.
حسانه وقصده. وجانب آخر: أن الناس والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بمن علمت أنه يقول ولا يعمل، أو يعلم ثم لا يعمل، ولهذا قال شعيب عليه السلام: } وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88] {[سورة هود].
وجانب ثالث: هو أن كثيرًا من الناس لا يتوجه نحو العمل حتى يرى واقعًا ماثلاً، وأنموذجًا مطبقًا يتخذه أسوة، ويدرك به أن هذا المطلوب أمر في مقدور كل أحد. بل متى يكون المرء قدوة صالحة، وأسوة حسنة ما لم يسابق إلى فعل ما يأمر به من خير، وترك ما ينهى عنه من سوء؟! وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ]