هل العادة من حيث قيمتها إيجابية أم سلبية
مقالة فلسفية حول العادة والإرادة
لسؤال :هل السلوك التعودي سلوك إيجابي أم سلبي؟
هل العادة تدل على التكيف والإنسجام أم أنها تؤدي إلى إنحراف في السلوك ؟
هل العادة تكيف أم انحراف ؟
هل العادة سلبية أم إيجابية ؟
مقدمة .( طرح المشكلة )
إن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه يسعى دائما إلى التكيف و التأقلم مع العالم الخارجي و يلجأ في ذلك إلى عدة آليات من بينها العادة التي تعرف بأنها قدرة مكتسبة على أداء عمل ما بطريقة آلية مع السرعة و الدقة و الاقتصاد في المجهود و لهذه القدرة إنعكاسات على سلوك الإنسان وهذا ما أدى إلى جدال المفكرين والفلاسفة و تضارب آرائهم فإنقسموا إلى تيارين متعارضين تيار يرى بأن" العادة سلوك إيجابي يساعد على التكيف" و تيار يرى بأن " العادة سلوك سلبي يعيق التكيف "
هذا الجدال الواقع بينهم دفعنا إلى طرح الإشكال الآتي : هل السلوك التعودي ينعكس إيجابا أم سلبا على الإنسان ؟ أو بمعنى آخرهل العادة تساعد الإنسان في تحقيق التكيف مع العلم الخارجي أم تعيقه ؟ هل العادة مجرد ميل اعمى ؟
العرض : ( محاولة حل المشكلة )
عرض منطق الأطروحة : " العادة سلوك إيجابي يساعد على التكيف "
إن العادة سلوك إيجابي يلعب دورا حيويا في تحقيق التكيف و التوافق بين الفرد و بيئته الطبيعية والإجتماعية و تعود إيجابا على حياة الإنسان فكريا ، نفسيا ،إجتماعيا و أخلاقيا و يتبنى هذا الموقف كل من ( آلان ،مودسلي ،يوسف مراد) و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج و البراهين الآتية:
إن العادة تمكن الإنسان من التأقلم مع المواقف و التغيرات الجديدة كتعود الإنسان على مناخ منطقة معينة فمثلا البدوي الذي ينتقل إلى العيش في المدينة فإنه في البداية يجد صعوبة في التكيف مع الوضع الجديد لكن بمرور الزمن يتعود على هذا الوضع
كما تجعل العادة سلوك الإنسان أكثر إنتظاما و على أستعداد تام لمواجهة مختلف المواقف و التعامل معها بفاعلية و ذلك لأن تعود الإنسان على سلوك معين يجعله يقدم عليه دون تردد لذلك يقول آلان " إن العادة تمنح الجسم الرشاقة والمرونة" و يقول دكتور يوسف مراد " فالعادة تكيف مكتسب لتحقيق التوافق بين الشخص ومطالب حياته المادية والمعنوية "
و كذلك تمكن العادة الإنسان من إتقان عمله فالشخص الذي تعود على حرفة معينة يصبح مبدعا فيها أكثر من غيره إضافة إلى انها تجعل الإنسان على قابلية تامة لتعلم عادات أخرى شبيهة فالعازف على آلة البيانو مثلا يستطيع أن يعزف على آلات موسيقية أخرى لذلك يقول دكتور يوسف مراد " إن تدريب العامل على إدارة بعض الآلات الخاصة يؤهله للتعلم السريع لإدارة آلات جديدة فكأنه يكون قد إكتسب مهارة ميكانيكية عامة "
كما إن العادة تحرر الإنتباه و الإرادة وتخفف من ضغط التفكير و عمل الإدراك و تمكن الإنسان من القيام بعمله بأقل مجهود و أسرع وقت نتيجة للآلية التي تتميز بها فالمتعود على الكتابة على جهاز الكمبيوتر ينجز عمله بسرعة و دقة و إتقان عكس المبتدئ لذلك يقول مودسلي " لولا العادة لإستهلك الإنسان جهدا ووقتا طويلا في تهيئة هندامه فقط" ويقال كذلك "العادة إفادة "
و كذلك إجتماعيا فإن العادة تؤدي إلى تماسك المجتمع فعادة التكافل و التراحم بين أفراد المجتمع تزيد من ترابطهم فيما بينهم ووحدتهم ، كما أن للعادة إتصال وثيق بالأخلاق و إكتساب الفضائل فصفة الأمانة مثلا: من وطن نفسه على سلوك الأمانة، واعتاد عليه، لا يقف مترددا في أحكامه، ولا ينفق جهدا أو عناء في اصطناع سلوكها، أما غيره الذي لم تغرس فيه صفة الأمانة فكثيرا ما تغريه الخيانة... ويستلزم الأمر عندهم جهدا كبيرا من قوة الإرادة وأحكام الإدراك، لالتزام الأمانة، ولهذا يقول جون ديوي "كل العادات تدفع إلى القيام بأنواع معينة من النشاط، وهي تكون النفس، وهي تحكم قيادة أفكارنا فتحدد ما يظهر منها وما يقوى، وما ينبغي له أن يذهب من النور إلى الظلام"
نقد و مناقشة : صحيح أن للعادة عدة إيجابيات و لا يمكن إنكار ما تقدمه للفرد من محاسن إلا أن هذا الموقف بالغ في رأيه متجاهلا ما تحمله العادة من سلبيات و مخاطر على الفرد و المجتمع مثل عادة القمار ، تعاطي المخذرات ، الغيبة ...إلخ فهي عادات تفتك بالفرد و تدمر المجتمع
عرض نقيض الأطروحة : " العادة سلوك سلبي يعيق التكيف"
إن العادة سلوك سلبي يعيق التكيف و التأقلم نظرا للآلية التي تتميز بها فهي لها إنعكاسات سلبية على مختلف جوانب حياة الإنسان الفكرية ، النفسية ، الإجتماعية و الأخلاقية و يتبنى هذا الموقف كل من " برغسون , روسو , كانط , ياسبيرس " و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج و البراهين الآتية :
إن العادة تشل حركة التفكير و الإبداع فالإنسان إذا تعود على نمط معين من الافكار و إعتقد بصحتها فإنه يصعب عليه تغييرها فهي بذلك تقضي على الروح النقدية التي يتميز بها التفكير العلمي و تؤدي إلى التخلف لأنها تقف مانعا أمام ظهور أفكار جديدة مثل تعصب المذاهب الفلسفية في العصر الحديث و كذلك الرفض الذي قوبل به غاليلي في العصور الوسطى عندما قدم نظرية جديدة في الفلك " دوران الأرض " رغم صحتها و سبب ذلك أنها جاءت مخالفة للفكرة التي كانت سائدة أنذاك " الأرض مسطحة" لذلك يقول ياسبيرس " إن العلماء يفيدون العلم في النصف الأول من حياتهم و يضرون به في النصف الثاني من حياتهم " و يقول برغسون " العادة جمود "
كما أن للعادة إنعكاس سلبي على المستوى النفسي فهي تنتزع من الإنسان إنسانيته و تفرغه من المشاعر والأحاسيس و يصبح شبيها بالآلة فالطبيب مثلا يقوم بعمليات جراحية و عمليات التشريح دون أن يثير ذلك فيه أي أحاسيس و ذلك لكثرة قيامه بهذه العمليات وكذلك المجرم المحترف لهذا الفعل لا يكترث لعواقب إجرامه وما تلحقه الجريمة من أضرار نفسية ومادية بضحاياه وهذا لغياب الشعور والإحساس يقول روسو" إن العادة تقسي القلوب " و يقول برودوم " جميع الذين تستولي عليهم العادة يصبحون بوجوههم بشرا وبحركاتهم آلات "
و إجتماعيا فإن تعصب المجتمع للعادات والتقاليد يحول دون الإصلاح والتجديد مما يؤدي إلى الرتابة وعدم مواكبة التطور مثل رفض المجتمع التخلي عن بعض المعتقدات و الخرافات رغم بطلانها من الناحية المنطقية و العلمية و الدينية لذلك يقول كانط " كلما إزدادت العادات عند الإنسان كلما أصبح أقل حرية و إستقلالية "
أما أخلاقيا فإن تعود الإنسان على القيام بالرذائل و الأفعال السيئة مثل إدمان المخذرات ، السرقة ... إلخ تجعل الفرد أسيرا لعاداته و ضعيف الشخصية أمام الشهوات والأهواء يقول روسو " خير عادة أن لا يألف الإنسان أي عادة "
نقد و مناقشة : صحيح أن للعادة آثار سلبية على سلوك الإنسان، إلا أن هذا التيار بالغ في رأيه متجاهلا ما لها من آثار إيجابية وما لها فوائد على حياة الإنسان
التركيب :
يمكن القول أن العادة سلاح ذو حدين فهي من جهة سلوك إيجابي في كونها وسيلة تساعد الفرد على التكيف مع محيطه و تحرر إرادته و تمكنه من أداء عمله بسرعة و دقة و أقل مجهود ومن جهة أخر سلوك سلبي لإنها إذا ما إستبدت بصاحبها سلبته إنسانيته و جعلته عبدا لها لذلك على الإنسان أن يتعامل معها بحكمة فيتحلى بإيجابياتها و يتخلى عن سلبياتها وفق مبدأ التحلية و التخلية و هذا يتضح في قول مارك توين " لايمكن التخلص من العادة برميها من النافذة وإنما يجعلها تنزل السلم درجة درجة".
خاتمة : ( حل المشكلة )
و في الأخير يمكن القول أن سلوك إيجابي و سلبي في نفس الوقت فهي بالقدر الذي تحمله من إيجابيات و فوائد تحمله من سلبيات ومخاطر فهي قد تساعد الإنسان على التكيف و قد تشكل عائقا أمامه لذلك ينبغي عليه التعامل معها بحذر و تروي و ذلك بالإستفادة من إيجابياتها و تفادي سلبياتها و إخضاعها لسلطة العقل و الإرادة و في هذا يقول شوفالي " إن العادة أداة حياة أو موت حسب إستخدام الفكر لها ".
.