في تصنيف بكالوريا جميع الشعب بواسطة

مقالة فلسفية حول فلسفة العلوم لجميع الشعب ، هل نتائج الدراسة التجريبية يقينية مطلقة أم نسبية إحتمالية

مقالة الحتمية واللاحتمية

#خاص_بكل_الشعب_النهائية ( بكالوريا ) 

الإشكالية : في فلسفة العلوم 

المشكلة : في العلوم التجريبية والعلوم البيولوجية 

#نص_السؤال: هل نتائج الدراسة التجريبية يقينية مطلقة أم نسبية إحتمالية ؟ (الحتمية واللاحتمية)

     

المقال 

  #طرح_المشكلة من بين المناهج التي أحدثت تغيرا وتطورا كبيرا في الساحة العلمية المنهج التجريبي، الذي يمكننا من اكتشاف القوانين التي تحكم الظواهر، وإذا كانت الغاية منه هي الوصول إلى نتائج علمية دقيقة، فلقد شكل موضوع النتائج المحصل عليها جراء الدراسة التجريبية محورا للبحث والنقاش في الأوساط الفكرية والفلسفية والعلمية، وظهر بذلك اتجاهان يؤكد الأول منهما على مطلقية نتائج الدراسة التجريبية ويقينيتها، بينما ذهب أنصار الاتجاه الثاني إلى نقيض ذلك تماما حيث يصرون على نسبية واحتمالية تلك النتائج. من هنا ولرفع التعارض والجدال بين الموقفين حق لنا أن نتساءل: هل توصف نتائج العلوم التجريبية بالدقة واليقين والمطلقية أم بالنسبية والاحتمالية والتقريبية؟

#الموقف_الأول يرى عدد من الفلاسفة والعلماء أمثال: "جون ستيوارت مل" و"كلود برنار" و "لا بلاس" و "هنري بوانكاري " أن النتائج التجريبية تعبر عن الحقائق العلمية الأكثر دقة وموضوعية، أي أن النتائج المتوصل إليها عن طريق المنهج التجريبي قوانين دقيقة ويقينية، وهذا نتيجة اعتمادها المقياس الصارم، الذي لا يقرر حقيقة إلا إذا أكدتها وبرهنت عليها التجربة، كما أن النتائج التجريبية تصاغ في أحكام كمية رياضية حتى تبتعد عن الوصف والكيفيات التي تثير الالتباس والغموض، ومن ثمة تضمن الدقة والاختصار واليقين، وأحسن تعبير عن ذلك ما نجده في النموذج الفيزيائي وما حققه من يقين في منهجه ولغته ونتائجه فصار من أرقى العلوم دقة، وكل هذه الخصوصية في النتائج التجريبية هي التي فتحت للإنسان آفاق المستقبل، وإمكانية التنبؤ بالظواهر قبل حدوثها، واستثمار تلك النتائج في واقعه وما ترتب عن كل ذلك من أبعاد حضارية وتقنية ومعرفية لم تخطر أبدا على عقل الإنسان. ومن بين الأدلة التي اعتمد عليها أنصار هذا الاتجاه لتبرير موقفهم أيضا، أن الأساس الذي تستند وتقوم عيه النتائج والقوانين العلمية هو مبدأ الحتمية المطلق الذي يؤكد أن لكل ظاهرة أسباب وشروط متى توفرت تحققت نفس النتائج، ذلك لان العلم كما يؤكد #كلود برنار قائلا: "إن العلم حتمي بالبداهة، وهو يضع الحتمية موضع البديهيات، فلولاها لما أمكن أن يكون" ومن ثمة فهو يرفض أن تكون هناك ظاهرة علمية لا ترتبط دائما بنفس الشروط، وهذا ما يتضح من خلال قوله: "إن ظاهرة لا يمكن تحديد شروط وجودها لا تعدو أن تكون إنكارا للعلم" لذلك فهو يجعل الحتمية أساس كل العلوم التجريبية وتخضع لها جميع الظواهر جامدة كانت أم حية. يقول #كلود برنار: "تتحدد شروط وجود كل ظاهرة تحديدا مطلقا في جميع الكائنات سواء أكانت أجساما حية أو جامدة". ووفقا لمبدأ الحتمية المطلق يمكننا التنبؤ حينها بحدوث الظواهر وقوانينها وهي الغاية التي يسعى إليها العلم. نفس الرأي ذهب إليه #بوانكاريه الذي يؤكد على أن العلم يخضع لمبدأ الحتمية المطلق وهو ما يجعل الحقائق المتوصل إليها تتصف بالدقة واليقين، لأن العالم الذي لا تسوده الحتمية حسب #بوانكاريه هو عالم موصد في وجه العلماء، لأن العلم حتمي بالبداهة. وهو ما جعل #لابلاص" يضع هو الآخر كامل ثقته في مبدأ الحتمية ويؤكد بثبات الشروط والأسباب وبالتالي الثقة التامة في المنهج التجريبي وما ينجم عنه من نتائج وقوانين إذ يقول: "يجب أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة وسببا لحالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة".

#النقد: لكن ورغم ما قدمه أنصار هذا الاتجاه من أدلة وحجج لتبرير موقفهم، إلا أن الملاحظ أن هذا الموقف المتعصب للنتائج التجريبية والناظر إليها على أنها حقائق دقيقة ونهائية، هو موقف لا يتناسب مع الروح العلمية المعاصرة التي تقوم على أساس الإيمان بمبدأ النسبية، لأن علمنا ليس كاملا ولا تاما، بل يمدنا فقط بحقائق تقريبية، من جهة أخرى نجد أن تاريخ العلم لا يعبر عن حقائق مطلقة وثابتة، بل يعبر عن أخطاء أولى وجب النظر إليها وإعادة تصحيحها حسب رأي "غاستون باشلار" وفق مقاربات جديدة وباستمرار، وكل هذا يثبت أن نتائج الدراسة التجريبية نسبية وتقريبية. كما أن معطيات العلم في القرن العشرين وما أحدثته من ثورة على المفاهيم السابقة، ابتداء برفض مبدأ الحتمية المطلق والنتائج المطلقة واليقينية والثابتة، والأخذ بمبدأ الاحتمال والنسبية في الدراسة العلمية ونتائجها، والابتعاد عن هالة المطلق والنتائج اليقينية وبالتالي توجيه البحث العلمي إلى فهم نظام الأشياء واستخلاص النتائج بقدر الإمكان. لأن العلم مجال مفتوح ولغز متجدد باستمرار.

#الموقف_الثاني يرى أنصاره الموقف النقيض من أمثال ( دافيد هيوم ، غاستون باشلار ، بول ديراك ، ماكس بلانك ، هزنبرغ ، وادينجتون ) أن الباحث في العلوم التجريبية يبدأ دراسته من ملاحظة الظواهر، ثم يتجه إلى تحليل المركب منها، وما يواجهه من مشكلات، ثم يعمل على وضع تعليلات مؤقتة (افتراض) لها، ثم يسير إلى التجربة للتحقق من الحادثة المدروسة، والتأكد منها، قصد الوصول إلى تفسير لها، وصياغتها في شكل قانون عام يعبر عن الحادثة ويفسرها، فالقانون هو محصلة العلم ونتيجة دراسته، لكن هذه النتائج التجريبية وحقائقها ليست يقينية بل تبقى نسبية تقريبية فقط، فهي نتائج احتمالية وغير مضمونة الدقة، وهو ما أكده أنصار الفيزياء المعاصرة الذين اعتمدوا بدورهم على أدلة وحجج لتبرير موقفهم أهمها: أن النتائج التجريبية تعبر عن علاقات متشعبة من المستحيل على الباحث التجريبي أن يحيط بها جميعا، أو يجعلها في شكل قانون عام، ومن ناحية أخرى نجد المعايير التي تقاس بها الظواهر الطبيعية ليست ثابتة ولا يقينية لأنها معرضة لعوامل وتغيرات تطرأ عليها، مما يفقدها دقة النتائج وتصير النتائج مجرد احتمالات ترجيحية. لهذا يؤكد أصحاب هذا الموقف أن منطلقات الدراسة الاستقرائية غير المؤكدة، وغير المعللة علميا، ولا سند تجريبي لها، هو الذي يبرر نسبية النتائج، والشك فيها أحيانا، لأن صدق الجزء لا يبرر بالضرورة صدق الحكم على الكل. يقول "كلود برنار": "يجب أن نكون حقيقة مقتنعين بأننا لا نمتلك العلاقات الضرورية الموجودة بين الأشياء إلا بوجه تقريبي كثيرا أو قليلا، وأن النظريات التي نمتلكها هي أبعد من أن تمثل حقائق ثابتة". ثم إن نتائج العلم تتأسس في مجملها على مبدأ الحتمية واطراد الظواهر الذي يعني السير وفق قوانين عامة ثابتة، ملزمة لحدوث الظواهر، رغم أن كل الدلائل في الواقع تؤكد أن عالم الأشياء الحسية متغير باستمرار، ونسبي، ولا ثبات له، وهذا يعني أن ما نصل إليه من نتائج علمية تبقى نسبية لا يمكن تعميمها، ولا الجزم بأنها تبقى كذلك، لهذا يقول " #غاستون باشلار": "إن العلم الحديث هو في حقيقته معرفة تقريبية". حيث يرى " #غاستون باشلار" أيضا أن العقل العلمي يصير متطورا باستمرار، يمارس الهدم والنفي ليعود إلى البناء والتأسيس من جديد، وهذا ما رسخته بالفعل: ميكانيكا لكونتم..فيزياء المصفوفات، ميكانيك ديراك...وغيرها من الأبحاث العلمية الحديثة والمعاصرة التي تؤكد حقيقة أن النتائج التجريبية نسبية تقريبية فقط. ومن أنصار هذا الموقف أيضا " #ماكس بلانك" الذي أكد أن الذرة تصدر الطاقة في شكل صدمات غير منتظمة يصعب معها التنبؤ الدقيق وفق مبدأ الحتمية مما يجعل المعارف العلمية تقريبية نسبية وليست مطلقة ثابتة، بالإضافة إلى قصور أدوات الباحث المستخدمة في المنهج التجريبي خاصة إذا كنا بصدد دراسة الظواهر المتناهية في الصغر أو ما يعرف بعالم "الميكروفيزياء" أو "الفيزياء المجهرية"، فحركة الجسيمات لا يمكن ضبطها بأدوات القياس نظرا لرهافتها، وهذا ما يؤدي إلى نتائج تقريبية غير دقيقة، لذلك نجد العالم الفيزيائي " #هيزنبرغ" سلم بذلك عندما قال: "كلما تم التدقيق في موقع الجسم كلما غيرت هذه الدقة كمية حركته، وبالنتيجة سرعته، و كلما تم التدقيق في قياس حركته كلما التبس موقعه، لذلك تصعب معرفة موقعه وسرعته في زمن لاحق" وربما هذا الذي جعله يؤكد على أن: "الخلاف بين الفيزياء المعاصرة أي التي تعتمد على مبدأ اللاحتمية والفيزياء الكلاسيكية التي تعتمد على الحتمية يمكن معرفته من خلال ما يطلق عليه علاقة الارتياب..".  

#النقد : لكن ورغم ما قدمه أنصار النزعة المعاصرة من حجج لتبرير موقفهم القائل بالنسبية، إلا أنه لا يمكن التسليم بصحة رأيهم مطلقا. فالواقع وتاريخ العلم يثبتان ذلك.ألا يكون إنكار مبدأ الحتمية المطلق إنكار للعلم ودقة نتائجه؟ ألا يكون هذا عائقا أمام تحقيق غاية العلم وهي التنبؤ؟

#التركيب: إن العلوم المعاصرة اليوم لجأت إلى الاعتماد على مبدأ الاحتمالات، خاصة بعد التطور الذي خضعت له الفيزياء المعاصرة، لذلك اعتمد على هذا المبدأ في عالم الميكروفيزياء، أو عالم الظواهر المتناهية في الصغر، لأنها لا تقبل مبدأ الحتمية المطلقة، لكن هذا لا يمنع من تطبيق هذا المبدأ في عالم الماكروفيزياء أو عالم الظواهر المتناهية في الكبر، والواقع العلمي يثبت ذلك.(أمثلة من الواقع..).

#حل_المشكلة ختاما ومما سبق نستنتج أن أي بحث علمي، لا يخرج عن نطاق التسليم بخضوع الظواهر لمبدأ الحتمية والتطور الحاصل في الفيزياء المعاصرة لا يرفض فكرة الحتمية ويهدمها، لأنها مبدأ علمي تقوم عليه الدراسات التجريبية يمكننا من الوصول إلى نتائج علمية، بل يرفض التسليم بأنها مطلقة وتؤدي إلى نتائج مطلقة لا تتغير، وهذا ما أكده " #لانجفان" عندما قال: "إن نظريات الذرة في الفيزياء الحديثة لا تهدم مبدأ الحتمية، وإنما تهدم فكرة القوانين الصارمة الأكيدة أي تهدم المذهب التقليدي".

شكراً لزيارتكم موقعنا النورس العربي. وفقنا الله وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه 

2 إجابة

0 تصويتات
بواسطة
 
أفضل إجابة
الحتمية واللاحتمية

هل نتائج الدراسة التجريبية يقينية مطلقة أم نسبية إحتمالية
0 تصويتات
بواسطة
هل نتائج الدراسة التجريبية يقينية أم نسبية

نص السؤال: هل نتائج الدراسة التجريبية يقينية أم نسبية؟ (جميع الشعب)

     لا شك في أن الغاية من العلم هي الوصول إلى تفسير الظواهر تفسيرا صحيحا، أي معرفة أسبابها وعللها. ومن بين المناهج التي أحدثت تغيرا وتطورا كبيرا في الساحة العلمية المنهج التجريبي الاستقرائي، الذي يمكننا من اكتشاف القوانين التي تحكم الظواهر وتفسرها، وإذا كانت الغاية منه هي الوصول إلى نتائج علمية دقيقة، فلقد شكل موضوع النتائج المحصل عليها جراء الدراسة التجريبية محورا للبحث والنقاش في الأوساط الفكرية والفلسفية والعلمية، وظهر بذلك اتجاهان يؤكد الأول منهما مطلقية نتائج الدراسة التجريبية ودقتها، بينما ذهب أنصار الاتجاه الثاني إلى نقيض ذلك تماما حيث يصرون على نسبية واحتمالية تلك النتائج. من هنا ولرفع التعارض والجدال بين الموقفين حق لنا أن نتساءل: هل توصف نتائج العلوم التجريبية بالدقة واليقين والمطلقية أم بالنسبية والاحتمالية والتقريبية؟ وبعبارة أخرى: أيهما على صواب. الرأي القائل بأن العلوم التجريبية حقائقها مطلقة أم القائل خلاف ذلك؟ وهل يمكننا تهذيب التناقض بينهما؟

     يرى عدد من الفلاسفة والعلماء أمثال: "جون ستيوارت مل"،" لابلاس" و "نيوتن" أن النتائج التجريبية تعبر عن الحقائق العلمية الأكثر دقة وموضوعية، أي أن النتائج المتوصل إليها عن طريق المنهج التجريبي قوانين دقيقة ويقينية، وهذا نتيجة اعتمادها المقياس الصارم، الذي لا يقرر حقيقة إلا إذا أكدتها وبرهنت عليها التجربة، كما أن النتائج التجريبية تصاغ في أحكام كمية رياضية حتى تبتعد عن الوصف والكيفيات التي تثير الالتباس والغموض، ومن ثمة تضمن الدقة والاختصار واليقين، وأحسن تعبير عن ذلك ما نجده في النموذج الفيزيائي وما حققه من يقين في منهجه ولغته ونتائجه فصار من أرقى العلوم دقة، وكل هذه الخصوصية في النتائج التجريبية هي التي فتحت للإنسان آفاق المستقبل، وإمكانية التنبؤ بالظواهر قبل حدوثها، ومثال ذلك: التنبؤ بظاهرة الكسوف، الماء يغلي بالضرورة في 100، ويتجمد بالضرورة في 0 ولا شك في ذلك ولا وجود للصدفة.حتى قيل: "إن الصدفة خرافة اخترعت لتبرير جهلنا". بالتالي وجب استثمار تلك النتائج في واقعه وما ترتب عن كل ذلك من أبعاد حضارية وتقنية ومعرفية لم تخطر أبدا على عقل الإنسان. ومن بين الأدلة التي اعتمد عليها أنصار هذا الاتجاه لتبرير موقفهم أيضا، أن الأساس الذي تستند وتقوم عيه النتائج والقوانين العلمية هو مبدأ الحتمية المطلق الذي يؤكد أن لكل ظاهرة أسباب وشروط متى توفرت تحققت نفس النتائج، ذلك لأن العلم كما يؤكد "كلود برنار" قائلا: "إن العلم حتمي بالبداهة، وهو يضع الحتمية موضع البديهيات، فلولاها لما أمكن أن يكون"، ومن ثمة فهو يرفض أن تكون هناك ظاهرة علمية لا ترتبط دائما بنفس الشروط، وهذا ما يتضح من خلال قوله: "إن ظاهرة لا يمكن تحديد شروط وجودها لا تعدو أن تكون إنكارا للعلم" لذلك فهو يجعل الحتمية أساس كل العلوم التجريبية وتخضع لها جميع الظواهر جامدة كانت أم حية. فهي ليست خاصة بالعلوم الفيزيائية وحدها فقط بل هي سارية المفعول حتى على علوم الأحياء. يقول "كلود برنار": "تتحدد شروط وجود كل ظاهرة تحديدا مطلقا في جميع الكائنات سواء أكانت أجساما حية أو جامدة". ووفقا لمبدأ الحتمية المطلق يمكننا التنبؤ حينها بحدوث الظواهر وقوانينها وهي الغاية التي يسعى إليها العلم. نفس الرأي ذهب إليه بوانكاريه الذي يؤكد على أن العلم يخضع لمبدأ الحتمية المطلق وهو ما يجعل الحقائق المتوصل إليها تتصف بالدقة واليقين، لأن العالم الذي لا تسوده الحتمية حسب "بوانكاريه" هو عالم موصد في وجه العلماء، لأن "العلم حتمي بالبداهة". وهو ما جعل "لابلاص" يضع هو الآخر كامل ثقته في مبدأ الحتمية ويؤكد بثبات الشروط والأسباب وبالتالي الثقة التامة في المنهج التجريبي وما ينجم عنه من نتائج وقوانين تكون دقيقة ويقينية. يقول "لابلاس": "يجب أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة وسببا لحالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة". وذلك طبعا لأن الظواهر الطبيعية تخضع لقوانين صارمة أهمها مبدأ الحتمية فنفس الأسباب تؤدي حتما إلى نفس النتائج مهما تغير الزمان والمكان. وما يؤكد ذلك أن لكل ظاهرة سبب يؤدي إلى حدوثها، وانطلاقا من مبدأ السببية العام ومن خلال معرفتنا للأسباب (الأحكام الجزئية) يمكننا استخلاص الأحكام الكلية (القواعد العامة) دون الرجوع إلى التجربة ومنه صياغة القانون العام. مثال ذلك: الذهب معدن يتمدد بالحرارة، النحاس، الحديد...وبالتالي نستخلص أن كل المعادن تتمدد بالحرارة. قاعدة كلية يقينية. مما يعني أن نتائج العلوم التجريبية دقيقة يقينية وأن الاستقراء مشروع وهو ما أكده "كانط" بقوله: "الاستقراء يقوم على مبدأ السببية العام". ومن أنصار الحتمية أيضا "نيوتن" الذي أشار في القاعدة الثانية من أسس تقدم البحث العلمي والفلسفي قائلا: "يجب أن نعين قدر المستطاع لنفس الآثار الطبيعية نفس العلل". كذلك يذهب "غوبلو" إلى القول:" بأن العالم متسق تجري حوادثه على نظام ثابت وأن نظام العالم كلي وعام فلا يشذ عنه في المكان حادث أو ظاهرة فالقانون العلمي هو إذن العلاقة الضرورية بين الظواهر الطبيعية". وعليه يمكن القول أن الطبيعة حسب أنصار هذا الاتجاه تخضع لنظام ثابت لا يقبل الشك أو الاحتمال، فمبدأ الحتمية هو أساس وقوام بناء أي قانون علمي ورفضه هو إلغاء للعقل والعلم معا.

     لكن ورغم ما قدمه أنصار هذا الاتجاه من أدلة وحجج لتبرير موقفهم، إلا أنهم تعرضوا لانتقادات عديدة لعل أبرزها: أن الحتمية التي يؤمن بها هؤلاء مسلمة عقلية وليست حقيقة تجريبية، وما هو مسلم به يحتمل الخطأ والصواب ولا يمثل الحقيقة دائما. كما أنه كثيرا ما تظهر حقائق تؤثر على مجال الاستقراء وتفند صحة النتائج السابقة. ومن جهة أخرى نلاحظ أن هذا الموقف المتعصب للنتائج التجريبية والناظر إليها على أنها حقائق دقيقة ونهائية، هو موقف لا يتناسب مع الروح العلمية المعاصرة التي تقوم على أساس الإيمان بمبدأ النسبية، لأن علمنا ليس كاملا ولا تاما، بل يمدنا فقط بحقائق تقريبية، زيادة على ذلك فتاريخ العلم لا يعبر عن حقائق مطلقة وثابتة، بل يعبر عن أخطاء أولى وجب النظر إليها وإعادة تصحيحها حسب رأي "غاستون باشلار". وفق مقاربات جديدة وباستمرار، وكل هذا يثبت أن نتائج الدراسة التجريبية نسبية وتقريبية. كما أن معطيات العلم في القرن العشرين وما أحدثته من ثورة على المفاهيم السابقة، ابتداء برفض مبدأ الحتمية المطلق والنتائج المطلقة واليقينية والثابتة، والأخذ بمبدأ الاحتمال والنسبية في الدراسة العلمية ونتائجها، والابتعاد عن هالة المطلق والنتائج اليقينية وبالتالي توجيه البحث العلمي إلى فهم نظام الأشياء واستخلاص النتائج بقدر الإمكان. لأن العلم مجال مفتوح ولغز متجدد باستمرار.

    يتبع
بواسطة
.
    لهذا ظهر اتجاه آخر يرى أنصاره ومن بينهم "ديراك"، "ماكس بلانك"، و"هيزنبرغ". أن الباحث في العلوم التجريبية يبدأ دراسته من ملاحظة الظواهر، ثم يتجه إلى تحليل المركب منها، وما يواجهه من مشكلات، ثم يعمل على وضع تعليلات مؤقتة (افتراض) لها، ثم يسير إلى التجربة للتحقق من الحادثة المدروسة، والتأكد منها، قصد الوصول إلى تفسير لها، وصياغتها في شكل قانون عام يعبر عن الحادثة ويفسرها، فالقانون هو محصلة العلم ونتيجة دراسته، لكن هذه النتائج التجريبية وحقائقها ليست يقينية بل تبقى نسبية تقريبية فقط، فهي نتائج احتمالية وغير مضمونة الدقة، وهو ما أكدته الأبحاث التي قام بها علماء الفيزياء والكيمياء المعاصرين على الأجسام الدقيقة أو ما يسمى بالميكروفيزيائية. حيث أدت تلك الأبحاث إلى نتائج غيرت الاعتقاد تغييرا جذريا. حيث ظهر ما يسمى باللاحتمية أو حساب الاحتمال. وبذلك ظهر ما يسمى بالفيزياء المعاصرة، والمقصود بهذه الأزمة أن العلماء الذين درسوا مجال العالم الأصغر أي الظواهر المتناهية في الصغر توصلوا إلى أن هذه الظواهر تخضع للاحتمية وليس للحتمية. ورأى كل من "إدينجتون" و"ديراك" أن الدفاع  عن مبدا الحتمية أصبح مستحيلا. وكلاهما يرى أن العالم المتناهي في الصغر عالم الميكروفيزياء خاضع لمبدأ الإمكان والحرية والاختيار، ومعنى هذا أنه لا يمكن التنبؤ بهذه الظواهر، والشيء نفسه بالنسبة لبعض ظواهر العالم الأكبر (الماكروفيزياء) مثل الزلازل. والتنبؤات بالارصاد الجوية التي عادة ما تتميز بأنها احتمالية تقريبية، وكثيرا ما أخطأ العلماء في إنزال المركبات الفضائية على سطح القمر بعشرات الأمتار عن المكان المحدد نظريا. ومن جهة أخرى نجد أن النتائج التجريبية تعبر عن علاقات متشعبة من المستحيل على الباحث التجريبي أن يحيط بها جميعا، أو يجعلها في شكل قانون عام، إضافة إلى أن المعايير التي تقاس بها الظواهر الطبيعية ليست ثابتة ولا يقينية لأنها معرضة لعوامل وتغيرات تطرأ عليها، مما يفقدها دقة النتائج وتصير النتائج مجرد احتمالات ترجيحية. لهذا يؤكد أنصار هذا الموقف أن منطلقات الدراسة الاستقرائية غير المؤكدة، وغير المعللة علميا، ولا سند تجريبي لها، هو الذي يبرر نسبية النتائج، والشك فيها أحيانا، فالبحث العلمي يعتمد على الاستقراء وهو غير مشروع باعتباره استقراءا ناقصا ينتقل فيه العالم من الجزء إلى الكل، وبالتالي لا يجوز بناء قواعد عامة من أحكام خاصة. لأن ما يصدق على الجزء قد لا يصدق بالضرورة على الكل. ثم إن نتائج العلم تتأسس في مجملها على مبدأ الحتمية واطراد الظواهر الذي يعني السير وفق قوانين عامة ثابتة، ملزمة لحدوث الظواهر، رغم أن كل الدلائل في الواقع تؤكد أن عالم الأشياء الحسية (الظواهر الطبيعية) متغير باستمرار، ونسبي، ولا ثبات له، وهذا يعني أن ما نصل إليه من نتائج علمية تبقى نسبية لا يمكن تعميمها، ولا الجزم بأنها تبقى كذلك، لهذا يقول "غاستون باشلار": "إن العلم الحديث هو في حقيقته معرفة تقريبية". حيث يرى "غاستون باشلار" أيضا أن العقل العلمي يصير متطورا باستمرار، يمارس الهدم والنفي ليعود إلى البناء والتأسيس من جديد، وهذا ما رسخته بالفعل: ميكانيكا لكونتم..فيزياء المصفوفات، ميكانيك ديراك...وغيرها من الأبحاث العلمية الحديثة والمعاصرة التي تؤكد حقيقة أن النتائج التجريبية نسبية تقريبية فقط. ومن أنصار هذا الموقف أيضا "ماكس بلانك" الذي أكد أن الذرة تصدر الطاقة في شكل صدمات غير منتظمة يصعب معها التنبؤ الدقيق وفق مبدأ الحتمية، مما يجعل المعارف العلمية تقريبية نسبية وليست مطلقة ثابتة، بالإضافة إلى قصور أدوات الباحث المستخدمة في القياس والملاحظة يؤدي إلى عدم بلوغ الدقة في النتائج خاصة إذا كنا بصدد دراسة الظواهر المتناهية في الصغر أو ما يعرف بعالم "الميكروفيزياء" أو "الفيزياء المجهرية"، فحركة الجسيمات لا يمكن ضبطها بأدوات القياس نظرا لرهافتها، وهذا ما يؤدي إلى نتائج تقريبية غير دقيقة، لذلك نجد العالم الفيزيائي "هيزنبرغ" قد توصل عام 1926 إلى أن قياس حركة الإلكترون أمر صعب للغاية، واكتفى فقط بحساب احتمالات الخطأ المرتكب في التوقع أو ما يسمى بعلائق الارتياب. حيث وضع القوانين التالية: كلما دق قياس موقع الجسم غيرت هذه الدقة كمية حركته. وكلما دق قياس حركته التبس موقعه. وبالتالي يمتنع أن يقاس موقع الجسم وكمية حركته معا قياسا دقيقا. أي يصعب معرفة موقعه وسرعته في زمن لاحق. يقول "هيزنبرغ": "كلما تم التدقيق في موقع الجسم كلما غيرت هذه الدقة كمية حركته، وبالنتيجة سرعته، و كلما تم التدقيق في قياس حركته كلما التبس موقعه، لذلك تصعب معرفة موقعه وسرعته في زمن لاحق" وربما هذا الذي جعله يؤكد على أن: "الخلاف بين الفيزياء المعاصرة أي التي تعتمد على مبدأ اللاحتمية والفيزياء الكلاسيكية التي تعتمد على الحتمية يمكن معرفته من خلال ما يطلق عليه علاقة الارتياب..". وعليه تكون نتائج الدراسة التجريبية نسبية تقريبية.
     لكن ورغم ما قدمه أنصار النزعة المعاصرة من حجج لتبرير موقفهم القائل بالنسبية، إلا أنه لا يمكن التسليم بصحة رأيهم مطلقا. فالواقع وتاريخ العلم يثبتان ذلك.فإنكارهم لمبدأ السببية العام ولمبدأ الحتمية المطلق ما هو إلا إنكار للعلم ودقة نتائجه وبالتالي إلغاء لكل القوانين العلمية.ومن جهة أخرى ألا يكون هذا عائقا أمام تحقيق غاية العلم وهي التنبؤ؟ بالاضافة إلى أنه ورغم أن النتائج والبحوث العلمية التي أثبتت أن عالم الميكروفيزياء يخضع للاحتمية وحساب الاحتمال. فإن ذلك مرتبط بمستوى التقنية المستعملة لحد الآن، فقد تتطور التقنية وعندئذ قد يكون بالإمكان تحديد موقع وسرعة الجسم في آن واحد. وبالتالي إزالة فكرة العشوائية في ظواهر الميكروفيزياء والوصول إلى تفسيرها بقوانينها خاصة. ولذلك فإن هذا الفهم الجديد للحتمية لا يستطيع بأي شكل من الأشكال أن ينقلب إلى إيمان بلا حتمية مطلقة وكاملة، لأن مثل هذا الاعتقاد يزعزع المعارف والعلوم ويؤدي إلى انفلات الظواهر من أية قوانين أو تفسيرات علمية تضبطها. ولذلك فإن من أول من اعترض على القائلين باللاحتمية هو الفيزيائي "اينشتاين" الذي اشتهر بجملة "لا أعتقد أن الله لعب النرد مع البشر". فاللاحتمية بالنسبة له حل مؤقت وآني. لأن التقنية لم تمنح العلم بعد الأدوات الدقيقة، والكافية للكشف عن الحقائق ولذلك فإن الشك وعدم الثبات واللاحتمية ستبقى من المبادئ التي تتأسس عليها نسبية العلم.
     نتيجة للانتقادات الموجهة لكلا الاتجاهين يمكننا التوفيق بينهما بالقول أن العلوم المعاصرة اليوم لجأت إلى الاعتماد على مبدأ الاحتمالات، خاصة بعد التطور الذي خضعت له الفيزياء المعاصرة، لذلك اعتمد على هذا المبدأ في عالم الميكروفيزياء، أو عالم الظواهر المتناهية في الصغر، لأنها لا تقبل مبدأ الحتمية المطلقة، لكن هذا لا يمنع من تطبيق هذا المبدأ في عالم الماكروفيزياء أو عالم الظواهر المتناهية في الكبر، والواقع العلمي يثبت ذلك. فلقد أكد البحث العلمي المعتمد على المنهج التجريبي الاستقرائي قدرته على تقديم إجابات كثيرة عما يشغل الإنسان، لكن رغم كل هذا تبقى نتائجه نسبية تقريبية وذلك لعدة اعتبارات منطقية، ابستمولوجية (معرفية) وعملية.  وبصورة أخرى يمكننا القول أن الظواهر الطبيعية تتميز في ذاتها بالحتمية ونفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج لكن معرفة الإنسان تتميز دائما بالقصور حيث لا يمكنه الإحاطة بكل أسباب الظاهرة مما يجعل المعرفة الإنسانية معرفة نسبية وهذا ما يؤكد عليه فلاسفة العلم المعاصرين أمثال: "أينشتاين" و"رودولف كارناب"...(مع إبراز الرأي الشخصي وتبريره).
ختاما ومما سبق نستنتج أن أي بحث علمي، لا يخرج عن نطاق التسليم بخضوع الظواهر لمبدأ الحتمية، والتطور الحاصل في الفيزياء المعاصرة لا يرفض فكرة الحتمية ويهدمها، لأنها مبدأ علمي تقوم عليه الدراسات التجريبية يمكننا من الوصول إلى نتائج علمية، بل يرفض التسليم بأنها مطلقة وتؤدي إلى نتائج مطلقة لا تتغير، وهذا ما أكده "لانجفان" عندما قال: "إن نظريات الذرة في الفيزياء الحديثة لا تهدم مبدأ الحتمية، وإنما تهدم فكرة القوانين الصارمة الأكيدة أي تهدم المذهب التقليدي". وعليه يمكن القول أخيرا أنه لا يمكن فعليا الحديث عن الدقة المطلقة في العلوم التجريبية ما دام الاستقراء ناقصا والنتائج نسبية، لكن يمكن الحديث عن تطور مستمر لهذه العلوم، فكلما تطورت وسائل الملاحظة والتجربة كانت النتائج أكثر دقة ويقينا...              الأستاذ: يزيد سكوب    بالتوفيق..

اسئلة متعلقة

...