مقالة جدلية
نص السؤال : ^ هل يعد النسيان ظاهرة معيقة للتكيف ام أنه ظاهرة طبيعية تساعد الذاكرة ؟ ^
_____ طرح المشكلة ____
مقدمة :
إذا كانت الذاكرة من حيث وظيفتها تعمل على حفظ الماضي وتخزينه واسترجاعه عند الحاجة إليه ، فإنها لا تقوى في بعض الحالات على استدعاء جزء من هذا الماضي بالرغم من الجهد المبذول لاستحضاره وهذا يعني أن الذاكرة مرتبطة بالنسيان الذي يعرف بأنه الفقدان المؤقت أو الكلي أو الدائم للذكريات ، لكن لم يتفق كل الفلاسفة و علماء النفس حول طبيعة النسيان وأثره ، وعلى هذا الأساس فقد تباينت مواقفهم فيما إذا كان فقدان الذكرايات أو ما يعرف بالنسيان حالة عادية تؤدي وظيفة ايجابية في التكيف مع العالم الخارجي أم انه حالة مرضية سلبية تعيق تكيف الفرد مع الواقع وعلى هذا نتساءل كيف يمكن التوفيق بين وظيفتين متناقضتين إحداهما تبني وتفيد والأخرى تدمر ؟ أو بعبارة أخرى متي يكون النسيان حقا مناقضا للذاكرة ومتى يكون شرطا لها ؟وهل النسيان يساعد على التكيف مع الواقع أم انه يعيق نشاط الفرد اليومي؟.
____ محاولة حل المشكلة _____
محاولة حل المشكلة :
#الموقف_الأول
يرى رائد مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد ان النسيان امر طبيعي فالذاكرة لا تعني حفظ كل آثار الماضي ثم استعادتها جميعا , بل ينتقي الإنسان ما هو ضروري وموافق لاهتماماته , ومن هنا يكون أمرا عاديا وطبيعيا أن ينسى إنسان بعض آثار الماضي يقول دولاي " النسيان حارس الذاكرة" فالذاكرة التي لا يسندها النسيان تضر الانسان بدل ان تنفعه , لذلك اعتبر برغسون النسيان حالة طبيعية يعيشها الفرد إذ لا يتذكر من الماضي إلا ما كانت له علاقة بالواقع الذي يعيش فيه , إذ لا يلتفت الإنسان إلى الماضي إلا لحاجة في التكيف , إذ حاول برغسون إثبات أن الحوادث السابقة لا تمحى , وأن الذكريات المنسية لا تتلف أبدا . ولهذا انتقد برغسون ريبو بشدة في الذاكرة المرضية .اما فرويد فيرى أننا ننسى معلومات مختزنة في الذاكرة لأننا ببساطة نود نسيانها إراديا و هي الأحداث المؤلمة في ساحة الشعور التي نطردها إلى اللاشعور وهو ما يعرف بنظرية الكبت التي نجدها لدى العاديين من الناس فقد يحدث النسيان نتيجة رغبة الشخص فى عدم تذكر مواقف معينة سبق له التعرض لها والنسيان فى هذه الحالة يسمى النسيان المدفوع لانه يعتمد على دوافع لا شعورية لدى الفرد ويلعب دور الحيلة الدفاعية ضد تهديد الذات . ؛ إننا ننسى اسم الشخص الذي لا نحبه و ننسى مكان الشيء الذي نريد أن نضيعه يقول سيغموند فرويد: "النسيان هروب من الواقع المؤلم"، وقد دلت التجارب صدق هذه النظرية الى حد كبير فلو سجل الإنسان في قائمة قبيل نومه ما يعتزم القيام به في الغد من أعمال وواجبات ثم عاد الى هذه القائمة في تمام اليوم التالي لوجد أن ما نسيه هو ما لم يكن يرغب لاشعوريا في أداءه وقد أجريت تجارب كثيرة من بينها أن طلب الى 51 طالب أن يسجلوا جميع خبراتهم السارة و غير السارة خلال الأسابيع الثلاثة التي سبقت التجربة و بعد ثلاث أسابيع طلب إليهم أن يسترجعوا القائمتين فوجد أنهم استرجعوا 51 بالمئة من الخبرات السارة و 41 بالمئة من الخبرات الغير السارة .
كما أن بعض علماء النفس الحديث يرجعون ظاهرة النسيان إلى بعض العوامل كعامل الترك اوالضمور, وعامل التداخل فاختفاء بعض الذكريات يكون نتيجة تركنا لها نظرا لعدم احتياجاتنا إليها او حين تكون المعلومات موضع الاهتمام مهملة ,ومنه فان الإهمال يتسبب في النسيان و على هذا فان النسيان يشبه البهت التدريجي لصورة فوتوغرافية مع مرور الزمن , فالإنسان يتذكر ما يلائمه وينفعه ويفيده , فالتذكر اختيار , وبناء على ما سبق يكون النسيان ظاهرة عادية تعيشها الذاكرة لا حالة سلبية .اما التداخل فيقصد به نسيان المعلومة نتيجة تداخل المعلومات الجديدة على القديمة والعكس فلو طلب من طفل قراءة كلمة لاول مرة "نجيب محفوظ "وبعدها بثوان قليلة الكلمة " مصطفى محمود " و إذا طلب من الطفل بعد انقضاء " نصف دقيقة " أن يستدعى الكلمة الأولى فإنه قد يجيب .. " نجيب محمود " .. أي أن الكلمة الجديدة جعلت من الصعب تذكر الكلمة القديمة أما إذا طلب من نفس الطفل استدعاء الكلمة الثانية فإنه قد يجيب " مصطفى محفوظ " أى أن الكلمة القديمة اعترضت استدعاء الكلمة الجديدة. وإذا نحن نظرنا إلى ما يؤديه النسيان من خدمات للذاكرة والإنسان بصفة عامة وجدناها كثيرة فلولا النسيان لما تقدمنا في تحصيل المعرفة خطوة واحدة فهو يسمح لنا باكتساب خبرات جديدة إذ يساعد الفرد على إبعاد بعض المعلومات التي ليس لها أي معنى والاهتمام بالمعلومات المفيدة التي نحتاجها في الوقت المناسب فلو كانت الذاكرة تملأ نفسها بكل شيء بحيث لا تغيب عنها دقائق الأشياء الماضية لأفتقد الفكر مرونته ،ويترتب على هذا أن النسيان هو الوسيلة النفسية التي يستخدمها الشخص للتوافق مع الشروط الراهنة التي تمس علاقته بالغير وحتى مع ذاته فإذا بقي الإنسان مثلا يتذكر دوما موت قريب له فحتما لن يعيش في توافق مع ذاته ومع المجتمع . يقول الكاتب الفرنسي جون روستان "اليوم السعيد هو اليوم الذي يبقى فيه الماضي ساكنا"
لايمكن أن ننكر القدر الذي وفق فيه اصحاب هذا الموقف حيث اعتقدوا أن النسيان ظاهرة إيجابية فهي من هنا حالة طبيعية تؤدي إلى الراحة النفسية ، كما تخلصنا من الذكريات السلبية والمؤلمة والحزينة ،والتي تؤثر مباشرة على استقرار وتوازن الحياة النفسية ، وتقضي على روح الفاعلية في النفس البشرية ، لكن أصحاب هذا الموقف تناسوا أن هذه الظاهرة قد تؤدي بالإنسان إلى نسيان بعض الحوادث وضياع بعض الذكريات المهمة ، فتكون بهذا طريقة مؤذية وأسلوب دمار للذات فهي تؤدي إلى فقدان المعارف والمكتسبات الخاصة بالنفس وبالذاكرة فقد تفقدنا ذكريات جميله ومفيدة كذلك قد تؤثر سلبا على حياة الفرد
// الموقف الثاني :
يرى أنصار النسيان المرضي انه ظاهرة تحمل جانبا سلبيا ذلك لان النسيان يعمد إلى تشتيت الذكريات ، ويؤدي إلى زوال بعضها ، مما يعمل على انفصال مجموعة من الذكريات ولقد أشار جميل صليبا في كتابه "علم النفس" أن النسيان يُولد في غالب الأحيان خللا في توازن الشخصية . فتتكون لدى الشخص شخصية ثانية وهوما يؤدي إلى استحالت التوافق مع المواقف الراهنة ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك نجد أن خطورة النسيان تتمثل في الإخفاق والفشل والاضطراب في وأثناء الامتحان ، حيث يؤدي بالمتر شح إلى الوقوف موقفا سلبيا أمام الموضوع أو السؤال الذي يريد الإجابة عليه ، كما قد تنشا عن النسيان إشكالات تتعلق بطبيعة العلاقات الاجتماعية مثل : نسيان اسم الشخص الذي نتعامل معه ، وهناك من ارجع ظاهرة النسيان إلى ارتباطها بالعامل الزمني يقول الفيلسوف بيرون في هذا الصدد :" كلما تقدمت الذكريات في الزمن كان ذلك ادعى إلى نسيانها "، كما قد يكون السبب نفسي أو عضوي يتعلق بمرض من الأمراض التي تصيب الذاكرة .
حيث يرى عالم النفس الفرنسي الفزيولوجي :ريبوribot1839/1919 أن النسيان حالة مرضية يتم عن طريق الإصابات المادية التي قد تصاب بها خلايا القشرة الدماغية نتيجة إصابة مباشرة يتعرض إليها الإنسان فيصاب بفقدان كلي أو جزئي لماضيه،وهناك الكثير من القصص في واقع الإنسان تؤكد هذا الطرح،ففي جامعة بريطانية حيث كان الطلاب يدرسون الحقوق كان هناك طالب له آمال مستقبلية،كان يخطط لها من أول سنة دراسية،لكن شاءت الأقدار أن تغير مجرى حياته، إذ أنه بينما كان يوما ما في قاعة الدرس،فجأة أغمي عليه و سقط ،فتم نقله إلى المستشفى قصد علاجه،لكن فات الأوان،إذ توصل الأطباء إلى أن خرابا كبيرا وقع في دماغه نتيجة تسرب الدم بفعل تمزق وريد صغير جدا في الدماغ لا يرى بالعين المجردة،ففقد ذاكرته و ماضيه، و تحطمت كل أمانيه و أحلامه، كما انه
من الأمراض التي تصيب الذاكرة وتحول دون التكيف السليم:
..الأمينيزيا:وهو يؤدي إلى فقدان الذاكرة،وقد يكون كلي في حالات نادرة، أو جزئي وهو نوعان:فقدان القدرة على الإستحضار،وعلى التثبيت...والأفازيا:فقدان القدرة على التذكر وهي أنواع:حركية:(عجز الدماغ عن إعطاء أوامر صحيحة للجسد،مثال:الوقوف عوض الجلوس)لفظية:(وهي عدم استعمال اللغة استعمالا صحيحا)معنوية:(العجز عن استحضار الصور و الأفكار والمعاني،وينتج عنها انحراف الذاكرة)..والأبراكسيا:نسيان الحركات،كالضرب على القيتار و لوحة المفاتيح.أما..البرامانزيا: فهي عدم القدرة على التعرف، ..والهبرمانزيا وتعني تصخم الذاكرة.
ونجد هنري برغسون يؤكد على أن النسيان ذو طبيعة سلبية لأنه مقترن بتلك الصدمات النفسية العنيفة التي تهدد توازن الإنسان النفسي .
كما اعطى العالم دولاي مثالا عن فتاة في الثالثة والعشرين من العمر،أصابتها رصاصة في المنطقة الجدارية،فلم تكن تتعرف على الأشياء التي توضع بيدها اليسرى،رغم أنها بقيت تحتفظ بمختلف الإحساسات اللمسية لكنها كانت تتعرف على ما يوضع بيدها اليمنى مثل جميع الناس.
نقد :
صحيح ما ذهب إليه أنصار هذا الموقف بالقول ان النسيان ظاهرة مرضية كونه معيقا للتكيف وبالتالي فهو يقف حائلا امام وظيفة الذاكرة ، لكن هؤلاء لم ينظروا للنسيان الا كونه هداما ولم ينتبهوا الى كونه مرافقا ووظيفة تابعة للذاكرة ، فالذاكرة لا تبني تراكمات بقدر ما تبني معارف ومخبرات لذا وجب وجود وظيفة النسيان من أجل تعزيز الذكريات التي نحتاجها وفي نفس الوقت ابعاد الذكريات المؤلمة وكذا تلك التي لا نحتاجها لاننا عمليا لو نتذكر كل الحوادث فإننا سنكون في مواجهة مع أخطر امراض الذاكرة وهو تضخم الذاكرة ، وبالتالي نسيان طبيعي بناء افضل وظيفيا من ذاكرة مريضة
// تركيب :
من خلال ما تقدم يتبين لنا أنه لا يمكن أن يكون النسيان دوما آفة للذاكرة، فهو أيضا وظيفة من وظائفها لذا قيل الذاكرة ملَكة نسائة ، كما لا يمكن أن يكون دوما نموذجا من أجل التكيف ، لانه كثيرا ما يقف حائلا دون استرجاع الذكريات التي نحتاجها او في مواجهة مواقف يعمل النسيان على تثبيطها ، لذا فالنسيان عامل إيجابي متى كان وظيفة تقتضيها الذاكرة وهو عامل سلبي متى جاء دوره بعد التخزين للذكريات ، لذا يمكن القول بأن النسيان حالة ضرورية وطبيعية تفرضها الذاكرة التي لا يمكنها أن تحتفظ إلا بالمهم ، فالإنسان لا يلتفت إلى الماضي إلا بمقدار ما يساعده على تحقيق مشاريعه ، ولكن نجد نوعا آخر من النسيان الذي تتسبب فيه أمراض مختلفة قد تصيب الذاكرة،وذلك ما يسمى بالنسيان المرضي.
// الرأي أو الموقف الشخصي:
وحسب تصوري الخاص أرى أن النسيان حالة عادية متى كان يبعد الذكريات التي لا نحتاجها أو تلك التي تسبب ارباكا للحياة النفسية كالذكريات المؤلمة التي يكون نسيانها مفيدا لاستقرار الوجدان ولاستمرار الحياة النفسية والذهنية والاجتماعية بشكل سوي ، فالنسيان حالة طبيعية يعيشها الفرد إذ لا يتذكر من الماضي إلا ما كانت له علاقة بالواقع الذي يعيش فيه ، فالإنسان لا يلتفت إلى الماضي إلا لحاجته للتكيف ، و الحوادث السابقة لا تمحى ، والذكريات المنسية لا تتلف أبدا إضافة إلى أن للنسيان فائدة كبيرة في تجاوز الذكريات الحزينة ، كذلك فالنسيان ليس حلا دائما للذاكرة متى تحول هذا النسيان الى قوة هدامة لذا ارى ان النسيان طاقة خلاقة متى كانت تعمل لصالح تنظيم ذكرياتنا وهو طبيعي من هذا القبيل على انه قد يتحول الى فشل ذريع لوظيفة التذكر عندما يقف حائلا بين الذكريات وإمكانية استرجاعها عند الحاجة اليها لبناء الحاضر وقراءة المستقبل قراءة جيدة ومفيدة
_______حل المشكلة ______
ختام القول و بعد عرض كل من الأطروحيتن عرضا مفصلا اتخدت الاولى مسارها بالقول بأن النسيان حالة طبيعية و ملازمة للحياة الإنسان حيث انه يعمل على ابعاد الذكرايات التي لا تتماشى مع المواقف من اجل مواقف اخرى ، و الثانية التي تقول بأن النسيان ظاهرة مرضية تصيب الذاكرة نتيجة لحوادث نفسية او عضوية تؤثر على عملهاو لكن أنه مادامت وظيفة الذاكرة تتحقق في ظل التكامل بين السلامة الفيزيولوجية و السيكولوجية فالنسيان يمكن أن يكون حالة مرضية ناتجة عن وجود خلل على مستوى الجملة العصبية أو إضطرابات نفسية . هذا من جهة , و من جهة ثانية فإنه مادامت الذكريات تستمد وجودها من الأطر العامة للمجتمع فإن النسيان حالة طبيعية و شرط من أجل التكيف السليم مع الغير . و هذا يعني أن النسيان هو في الأصل طبيعي و في بعض الحالات يعد حالة مرضية تؤثر سلبا على الفرد .