خطبة عن الإصلاح بين الناس فضل الأصلح بين الناس
خطبة بعنوان الإصلاح بين الناس ملتقى الخطباء
ملخص الخطبة:
1- فضل الإصلاح بين الناس وعظيم الأجر في ذلك. 2- أن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة. 3- مسؤولية أهل العلم والعقل والمكانة في الإصلاح بين الناس. 4- الشروط التي ينبغي توفرها فيمن يتصدى للإصلاح بين الناس. 5- فوائد فض النزاع بالإصلاح على فضه بالحكم القضائي. 6- إباحة الكذب من أجل الإصلاح بين الناس،
الخطبــــــة الأولـــى بـــعنــــوان
الإصــــلاح بين النـــــــــاس
الحمد لله الذي أصلح بلطفه الصالحين،وخلَع عليهم حُلَلَ الإيمان واليقين،وحَفِظَهم بعنايته مما يَفضح ويَشين،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمدا عبدُه ورسولُه النبي الأمين،اللهم صل وسلِّم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين،أما بعدُ فيا إخوةَ الإيمان والإسلام:لا تنسوا أنكم مسافرون وعن هذه الدارِ راحلون،فالدنيا دارُ معبر،والآخرةُ دارُ مقر،فإمَّا إلى النعيم أو إلى الجحيم،قال تعالى:فريقٌ في الجنة وفريق في السعير،وما أدراك ما سقرُ،لاتُبقي ولا تذر،فمن أراد أن يتزودَ فإنَّ خير الزاد التقوى،ومن التقوى المناصرةُ مع الله بالإصلاحِ بين الناس:قَالَ الله تَعَالَى:لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ،وَقالَ تَعَالَى:وَالصُّلْحُ خَيْرٌ،وَقالَ تَعَالَى:فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ،وقال تَعَالَى:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ،قولُه سبحانه وتعالى:لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ،فالنجوى هو حديثُ السر،إنسانٌ يتناجى مع صاحبه،بمعنى يكلمه سراً،فأكثرُ كلامِ السر بين الناس فيه الشر والبعدُ عن الخير،وفيه الغيبةُ و النميمةُ والكذب،ولكنَّ بعضَ هذا الكلامِ يكونُ فيه الخير؛ولذلك استثناه ربُّنا تبارك وتعالى فقال:لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ،أي:نجوى الناس فيما بينهم لا خير فيها إلا في حالات،مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ،بشرطِ:وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا،وقال تعالى:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ،وأُخُوَّةُ الإيمان أعظمُ بكثير من أُخُوَّةِ النسب،فإنِ اجتَمعا كان هذا خيراً عظيماً،فالأخ يحب أخاه ويحب له الخير،وينفعه حياً وميتاً،ينفعه في الحياة بالمعونة والنصيحة،وينفعه بعد الموت بالدعاء،ويوم القيامة بالشفاعة إذا كان هذا في الجنة وذاك في النار،فيشفع له فيخرجه ويأخذ بيده من النار ويدخله الجنة،فهنا نفع عظيم جداً في الأُخوة بين المؤمنين إذا تآخوِا ابتغاءَ وجه الله سبحانه وتعالى،فلذلك يُذكِّرنا ربنا بذلك،إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ،أي ليسوا أعداء ليسوا متباعدين،أيها الإخوة الكرام:هذا كتابُ الله يحثكم بالترغيب والترهيب في الإصلاح بين الناس،فتارةً يُرغِّبُ في الصلح بين الناس ابتغاءً لمرضاته بأنه سوف يؤتيه أجراً عظيماً،وتارةً يخوف المتنازعين والمصلحين بأنه يراقبهم ويعلم سرهم ونجواهم،إن الله كان عليماً خبيراً،عباد الله:إن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة،فعن أنس رضي الله عنه قال:بينما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ إذ رأيناه ضحِك حتى بدت ناباه،فقال عمرُ ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال رجلانِ من أمتي جيئا بين يدي ربِّ العزة تبارك وتعالى،فقال أحدُهما ياربِّ خُذْ لي مَظْلَمَةً من أخي،قال الله تعالى أَعْطِ أخاك مَظلمتَه،قال ياربِّ لم يَبقَ من حسناتي شيء،قال ربِّ فلْيَحْمِلْ عن أوزاري،قال أنسُ بْنُ مالكٍ ففاضتْ عينا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال:إن ذلك ليومٌ عظيمٌ يومٌ يحتاج الناسُ إلى من يتحملُ عنهم أوزارَهم،فقال الله تعالى للطالب ارفع بصرَك وانظرْ في الجنان،فرفع رأسه فقال ياربِّ أرى مدائنَ من فضةٍ وقصوراً من ذهبٍ مُكَلَّلَةً باللؤلؤ،لأي نبي هذا؟لأي صديق هذا؟لأي شهيد هذا؟ قال هذا لمن أعطى ثمنه،قال ياربِّ ومن يملك ثمنه؟قال أنت تملك ثمنه،قال ماذا يارب؟قال تعفوا عن أخيك؟قال يارب فإني قد عفوت عنه،قال الله تعالى:خذ بيد أخيك فأدخلا الجنة،ثم قال رسول الله فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم،فإن الله تعالى يُصْلِحُ بين المؤمنين يوم القيامة،عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ يَا أَبَا أَيُّوبَ،أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ يَرْضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْضِعَهَا؟ قَالَ بَلَى،قَالَ تُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا وَتُقَرِّبُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان،وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ؟قَالَ قُلْنَا بَلَى،قَالَ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ،وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ،رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ،فإصلاحُ ذاتِ البين درجةٌ أعظمُ من درجةِ الصلاة ودرجةِ الصيام ودرجةِ الصدقة،كأنه صلى الله عليه وسلم يقصد النافلة،فأفضل من أن تصليَ نافلةً تصلح بين الناس،وأفضل من أن تصوم نافلةً تُصلح بين الناس،عبادَ الله:إن مسؤوليةَ الجميعِ في جَلْبِ الأُلْفة ودفْعِ الفُرقة مسئوليةٌ عظيمةٌ علينا أن نَتَحَمَّلَها،وإلا فلنعلمْ أننا ضيَّعنا جزءاً كبيراً من الأمانة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فكم من جماعة أو قبيلة شَغَلَتِ القُضاةَ والمحاكمَ والدولةَ بأمورٍ عادية،كل ذلك سببه غيابُ أهلِ الإصلاحِ المخلصين والنباهةِ عن مكانتهم،وتركُ أهلِ العلم والحُجة لمسئولياتهم،خشية تطفل السفهاء عليهم،بدعوى أنهم يتكلمون في ما لا يعنيهم،عبادَ الله:إن الصلح يُثمر مالا يُثمر الحكمُ القضائي،إنه يُثمر إحْلالَ الأُلفة مكانَ التَّفْرِقة،ويستأصل دَاءَ المنازَعاتِ قبل أن تستفحلَ المنازعاتُ والخصومات،إنه يُوَفِّرُ الأموالَ التي تُنفَقُ في المحاماة بالحقِّ أو بالباطل،إنه يَتركُ سوقَ شهادة الزور والرُّشَا كاسدة،ويُعين على التفرغ للمصالح العامة والخاصة،هذا على مافيه من الأجر العظيم للمُصْلِحين والمتصالحين،وصدق الله العظيم إذ يقول،والصلح خير،اللهم ألف بين قلوبنا،وطهرها يا ربنا من جميع الأحقاد،واملئْها بالإيمان والتقوى وحبِّ الخير لجميع المسلمين،إنك على ما تشاء قدير،وبالإجابة جدير آمين والحمد لله رب العالمين،
الخطبــــــة الثــــــانية
الإصــــلاح بين النـــــــــاس
الحمد لله جعلَ المسلمين كجسدٍ واحدٍ إذا اشتكى منه عضوٌ اشتكى الجسدُ كلُّه،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له،وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه القائل،المؤمنُ للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضاً،اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين،عبادَ الله:إنه لابد للمُصلح بين الناس أن تَتَوفَّر فيه شروطٌ عامةٌ وأخرى خاصةٌ لتُخَوِّلَه السِّفارةَ بين المتنازعِين أو التوفيقَ بين المتخاصمِين،وإعادةَ المودةِ والرحمةِ بينهم،من هذه الشروط:أن يقوم بالإصلاح ابتغاءَ مرضات الله،وأن يكون الإخلاصُ لله وطلبُ الحقِّ هو باعثُه على الإصلاح،وأن يكون له مكانةٌ كبيرةٌ عند المتنازعين لعلْمِه وَوَرَعِه ورجاحةِ عَقْلِهِ،أيها الإخوةُ في الإيمان:إن ثمراتِ الإصلاحِ بين الناس عظيمة،وعاقبةَ تَرْكِهِ وخيمة،ولذا كان المصطفى يبادرُ إلى حَسْمِ النزاعات بالإصلاحِ العادل،فأصلحَ بين الزوجين وسوَّى بين الفَردَينِ حتى استوْضَعَ للدائن من الْمَدينِ صُلحاً،وأصلح بين الفئتين وسار على ذلك خلفاؤُه وصحابتُه والتابعون،وكتب الفقهاءُ والمحدثون للصلح في كتبهم،واعتنى به القضاةُ والدارسون لشئون المجتمعات والمجاهدون وغيرُهم،وإن القاضيَ الناجحَ لا يُصدر حكمَه القَضائيَ إلا إذا أعياه الصُّلْحُ العادل،ولعظيم فوائد الصلح رخَّصَ الشارعُ فيه الكذبَ من أجله،عن أُمِّ كُلْثُومٍ بنتِ عُقْبَةَ بن أَبي مُعَيْطٍ رضي اللَّه عنها قَالَتْ:سمِعْتُ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ،لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمي خَيْراً أَوْ يَقُولُ خَيْراً،مُتَّفَقٌ عَلَيهِ،وَعَنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ،الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ،لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ،وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ،رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ،أيها المسلمون:إن الخلافاتِ والمشاحناتِ تَحْلِقُ الدينَ لِمَا يترتب عليها من الدخول فيما لايجوز من التَّعَُّصُّباتِ وحُبِّ الانتصار على الخصوم ولو بالزور والكذب،فهل يَتْرُكُ المسلمون الخلافاتِ تُشَتِّتُهم؟ أو يَتركُ أهلُ الإصلاح المنازعاتِ تُمزِّقُ مجتمَعَهم؟ ألا تتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلفِ الصالح في القضاء على ما يُفرِّقُ الكلمة؟فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ،وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه،وأكثروا من الصلاة والتسليم على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين،اللهم صل وسلِّم وبارِكْ عليه وعلى آله وأزواجه وذريته أجمعين،وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين المهديين،أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي،وعن باقي الصحابة الكرام أجمعين،اللهمَّ اجعلْ جمعَنا هذا جمْعا مُباركا مَرحوما،وتفرُّقَنا منه تفَرُّقا سالما مَعصوما،ولا تجعلِ اللهُمَّ فينا ولا مَعنا شَقيا ولا محروما،اللهم اغْفِر لنا ولآبائنا وأمَّهاتنا ولجميعِ المؤمنين والمؤمنات،والمسلمين والمسلمات،الأحياءِ منهم والأمواتِ،إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ،وانصُرِ اللهُمَّ مَنْ أوْليتَه أُمورَ عبادِك،وجمعتَ به الكلمةَ في بلادك،أميرَ المؤمنين جلالةَ الملك محمدًا السادسَ،واحفَظْهُ اللهُمَّ في ولِيِّ عهده الأميرِ مَوْلاَيَ الحسَنِ،وفي أخيه الموْلَى الرَّشِيد،وسائرِ أفْرادِ أُسْرتِه الملكيَّةِ الشريفة،اللهم أَصْلِحْهُ وأصْلِحْ على يديه،وَوَفِّقْهُ للخير وأعنْه عليه،واجمَعِ اللهُمَّ الأُمَّةَ الإسلاميَّةَ على كتابك المبين،وأيِّدْها بالتَّآزُرِ والتمسُّك بالدِّين،سبحانَ ربِّك ربِّ العزَّةِ عمَّا يصفون،وسلامٌ على المرسلين،والحمد لله ربِّ العالمين