هل تكمن وظيفة اللغة في التواصل فقط ؟ مقالة جدلية
شعبة لغات وأداب وفلسفة
هل تكمن وظيفة اللغة في التواصل فقط ؟ مقالة جدلية
I/-المقدمة(طرح المشكلة): إن اللغة هي ذلك النسق الرمزي الذي يشمل جملة الإشارات , الرموز و الألفاظ . أو هي على حد تعبير عبد الصبور شاهين ذلك الكيان العام الذي يشمل كل ما هو منطوق أو مكتوب أو... « لكن المشكل ليس في ضبط المفاهيم بل في وظائف اللغة أو الغاية التي من أجلها وجدت. هذا ما شكل محور نقاش الكثير من الدارسين حيث نجد منهم من أكد أنها أفضل وسيلة لتحقيق التواصل كأنما وجدت لهذه الغاية فقط , إنطلاقا من تسليمهم بأنه لا سبيل للتعامل مع الغير إلا باعتماد اللغة , لكن في المقابل نجد من يرفض هذا الطرح و يقول بأنه للغة وظائف أخرى غير التواصل . لذا فأي الطرحين أصح وأيهما أقرب إلى الصواب ؟ بل أين تكمن وظيفة اللغة ؟ هل في التواصل لوحده أم يمكن أن تكون لها نشاطات أخرى ؟
II/-التوسيع(محاولة حل المشكلة):
القضية: (وظيفة اللغة تكمن في التواصل فقطٍ ).
تحليلها: يذهب أنصار هذا الطرح للتأكيد على مسلمة أساسية مضمونها أن وظيفة اللغة تكمن في التواصل لأن الإنسان وجد في علاقة مع أخيه الإنسان , و هذه العلاقة تتجلى من خلال تبادل الأفكار , الخبرات ..." و لن يتم ذلك إلا باعتماد اللغة .
البرهنة :
1 - بما أن التواصل هو تبادل الأفكار و الحقائق فإن تلك الأفكار لا يمكن إظهارها إلا عن طريق اللغة , لذلك لن يجد الإنسان وسيلة أفضل من اللغة من أجل تحقيق ذلك. و قد أكد المفكر الانجليزي جون لوك أن اللغة هي تلك الرموز الاصطلاحية التي اتفق عليها الأفراد ليعبروا بها عن المعاني الموجودة في الذهن و ذلك من أجل التواصل , إذ لا يمكن تصور الحياة الاجتماعية من دون لغة " اللغة تعزف بأفكار الذي يتكلم إلى الذين يستمعون "
اقرا ايضا: هل ترتد المفاهيم الرياضية إلى التجربة؟ مقالة الجدلية
2 – بما أن اللغة هي رموز و إشارات متفق عليها اجتماعيا , و كان الإنسان مضطرا في تواصله إلى استخدام وسيلة يفهمها الجميع , فإنه لم يجد غير اللغة كوسيلة لذلك . أكد جون لوك " لقد كان ضروريا أن يبدع الإنسان بعض الرموز الخارجية و الحسية لكي يستطيع أن يجعل ألفاظه غير المرئية تصل إلى الغير "
3 – عرف أندري لالاند اللغة على أنها مجموعة الإشارات التي يمكن أن تكون وسيلة للاتصال . و هذا يثبت أن ظهور اللغة الاصطلاحية عند الانسان ارتبط بعدم قدرة اللغة الانفعالية على تحقيق التواصل ( غير كافية ). و هذا ما يتجلى من خلال المقارنة بين لغة الحيوان و لغة الإنسان فالحيوان امتلك لغة طبيعية تعبر فقط عن حاجاته البيولوجية بينما الإنسان أسمى من أن يحصر أفكاره فقط في البقاء . أكد أرنست كاسير " أن الأسماء الواردة في الكلام الإنساني لم توضع لتشير إلى أشياء بذاتها , بل وضعت لتدل على معان اتفق عليها أفراد المجتمع . و في ذلك أشار أوغست كونت أن الإنسان مدني بطبعه, فهو يتكلم بلغة الجماعة و يدين بدين المجتمع , أي انه وضع اللغة من أجل التعبير و التواصل .
4 -ٍ و تتجلى قيمة التواصل خاصة عند تأمل ثنائية العلاقة بين الأصم و الأعمى, فالأصم يعتمد لغة الإشارات لكن الأعمى لا يشاهد الإشارة . كذلك الأعمى يستعين بالكلام بينما الأصم لا يسمع ما يقول. هنا ندرك أن نقص اللغة يؤثر سلبا.
4 – إن تواصل الأجيال يكون عن طريق اللغة بما أنها المسؤولة عن حفظ الإرث الاجتماعي والثقافي, فهي تعتبر أحد أهم مقومات الأمة . إذن تنحصر وظيفة اللغة في التواصل فقط .
اقرا ايضا:مقالة جدلية قيل " العولمة هي إعصار يدمر ثقافات و اقتصاديات الشعوب " حلل و ناقش
النقد: حقا اللغة وسيلة للتواصل لكن هذا لا يعد مبررا للقول أنها تنحصر فقط في هذه الغاية لأن في ذلك إهمال للوظائف الأخرى التي تحققها اللغة . كما أن اللغة قد تعد عائقا بعض الأحيان في تحقيق التواصل, لأنها من جهة هي عاجزة على حمل كل ما يفكر فيه الإنسان , و من جهة أخرى هي عاجزة على شرح الحالات الشعورية " هنري برغسون " كما انه من التطرف القول أن بقاء الأمم و تواصل الأجيال أساسه اللغة فقط لان الواقع يؤكد وجود مقومات أخرى .
نقيض القضية: ( وظيفة اللغة لا تنحصر في التواصل فقط )
شرح و تحليل: إن اللغة لا تنحصر وظيفتها في التواصل فقط بل وجدت من أجل نشاطات أخرى لها ارتباط بالذات و تتمثل أساسا في أنها تعد وظيفة نفعية , وظيفة استكشافية , وظيفة رمزية وظيفة تخيلية و كذلك انفعالية .
البرهنة :
1 الوظيفة النفعية : إن اللغة تسمح للإنسان بإشباع رغباته سواء البيولوجية الغريزية أو النفسية الانفعالية . و هذه الوظيفة وجدت كذلك عند الحيوان و ساهمت في تحقيق بقائه , و قد أشار فون فريش أن النحلة العاملة تقوم بالرقص في شكل ثمانية قصد إخبار العاملات بوجود الطعام .
2 – الوظيفة الاستكشافية: ساهمت اللغة في فهم الإنسان لحقيقة العالم الخارجي. إذ أن فضوله دفعه دوما للتساؤل عن حقيقة الموجودات , و لولا وجود اللغة لما تمكن من إيجاد حلول لأبسط استفهام . اللغة لها أيضا وظيفة إخبارية متمثلة في أنها سبيل لنقل المعلومات من فرد إلى فرد و من جيل لأخر . هذا ما أكده لويس لافيل من خلال قوله " اللغة ذاكرة إنسانية ." الواقع يثبت أن لغة الجماعة تعد بمثابة السجل الذي يحتوي الأفكار من عادات و تقاليد هذه الجماعة و نظرتها إلى الحياة .أكد هالفاكس أن الكائنات البشرية و هي تعيش داخل المجتمع فإنها تستخدم كلمات تعد شرطا للتفكير الجمعي . إذ أنه لا وجود لذكريات لا تقابلها ألفاظ .
3 – الوظيفة الشخصية : تتمثل في التعريف بالذات أو التعبير عنها , و هذا يعني انه لولا اللغة لبقي الإنسان مجهولا بالنسبة للغير . يقول هاني سليمان في كتابه لغة الجسد " قد يكذب اللسان و قد تصدق العين لما تحمله من دلالات الصدق و الحقيقة " . فالجسم يمتلك لغة تسمح بالتواصل مع الآخر . كما تعد اللغة شرطا من أجل السلامة النفسية . و في ذلك أشار سيغموند فرويد أن التصريح بالمشكل هو طريق إلى حله . واي نقص على مستوى اللغة يؤثر سلبا على السلوك و هو ما أكده جون بياجي من خلال قوله أن اللغة تساعد على نمو الفكر " كما أكد هنري برغسون أن اللغة هي كلمة السر التي تدخل الطفل إلى العالم الإنساني .
4 – الوظيفة التنظيمية : إن المتأمل لتاريخ الإنسان يجد انه انتقل من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع المنظم لما اعتمد قوانين تحكم الإفراد , و هذه القوانين هي فقط جمل مدونة تم الاتفاق على مصداقيتها من أجل تفادي الصراع و العشوائية.
5 – الوظيفة التخيلية : اللغة تمنح الإنسان كل القدرة على الانطلاق من الواقع و الهروب من ضغوط الحياة اليومية , اللغة تساهم في بناء العالم في شكله الجميل بعيدا عن مرارة الواقع ( أحلام اليقظة ) كما توجد الوظيفة الرمزية التي ساهمت في بناء العلم و جعلت من الرياضيات معيارا للدقة و الوضوح . إذن لا تنحصر وظيفة اللغة في التواصل فقط .
النقد :على الرغم من أهمية الوظائف الأخرى التي تؤديها اللغة لكن تجاهل وظيفة التواصل يعد تجاهلا لحقيقة اللغة و العلاقات الإنسانية . كذلك إن الوظيفة التنظيمية , الإخبارية أو الاستكشافية هي فقط تواصل من نوع آخر . إن الإنسان لم يصنع اللغة من أجل غايات نفعية ما دامت هذه الوظيفة وجدت أيضا عند الحيوان .بل هو أشرف من أن يهدف فقط للبقاء . .
اقرا ايضا: يقول ديكارت :"الإدراك حكم عقلي". حلل وناقش
التركيب: ان ٍاللغة كنسق رمزي تبقى واحدة في مفهومها ومتعددة في الوظائف التي وجدت من أجلها , إذ لا يمكن حصرها فقط في التواصل كما لا يمكن أن ترتبط فقط بالوظيفة الشخصية , الانفعالية , الاستكشاف , التنظيم أو ذاكرة المجتمع . بل الحقيقة أن كل هذه الوظائف ساهمت في وجودها اللغة .
الخاتمة : و انطلاقا مما سبق ذكره يتبين لنا أنه لا تكمن وظيفة اللغة في التواصل فقط بل هي كل ما يعبر به القوم عن أغراضهم . أي اللغة شرط للسلامة النفسية ووسيلة من أجل استرجاع الماضي و تنظيم الحاضر قصد بناء تصور ايجابي عن المستقبل . اللغة وسيلة من أجل التعبير عن الذات و التواصل مع الغير الذي يعد طرفا في العالم الخارجي لا يمكن العيش بمعزل عنه