خطبه الجمعه القادمه ومناسب بعنوان (نعمة العافية)
إن نِعم المنعم الكريم على عباده غير معدودة، وأبوابَ آلائه ما زالت لهم مفتوحة غير مسدودة، وأصنافها متنوعة غير محدودة، ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم:34]، ألا وإن من أعظم النِّعم: نعمةَ العافية التي تعني السلامة من كل مكروه في الدين والدنيا والآخرة، فعافية الدين: سلامة المؤمن من فتن الشبهات المضلة، وفتن الشهوات المحرمة، وعافية الدنيا: السلامة من كل ما يكدر العيش الدنيوي من الآلام والأسقام والأوجاع والأحزان، وعافية الآخرة: السلامة من غضب الله وناره، ونيلُ رضوانه وجنته.
عباد الله، إن العافية بمعناها العام مطلب ديني، ومطلب دنيوي، ومطلب أخروي؛ ولذلك كان لها بين المطالب الإنسانية أهمية عظيمة، ومكانة سامية.
فالعافية حسنة من حسنات الدنيا التي من وُهِبها نال خيراً كثيراً، وقد مثّل بعض المفسرين كقتادة وغيره للحسنة في الدنيا بالعافية والصحة،
في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة:201]،
وقال النووي - رحمه الله - في شرحه على مسلم: "وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا: أنها العبادة والعافية، وفي الآخرة الجنة والمغفرة، وقيل: الحسنة تعم الدنيا والآخرة"،
وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفتَ فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله لا تطيقه - أو لا تستطيعه - أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)؟ قال: فدعا الله له فشفاه[رواه مسلم.].
والعافية - معشر المسلمين - من المطالب الكثيرة التي كان يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر الناس ويوصيهم بسؤالها،
فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو بالعافية في الصلاة وغير الصلاة، ففي الصلاة كان من أدعية الاستفتاح قوله عليه الصلاة والسلام: - بعد أن يكبر عشراً ويحمد عشراً، ويسبح عشراً ويهلل عشراً، ويستغفر عشراً-: (اللهم اغفر لي واهدني، وارزقني وعافني، أعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة)
[ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وهو صحيح.]،
وكان يدعو في الجلسة بين السجدتين فيقول: (اللهم اغفر لي وارحمني، وعافني واهدني وارزقني) [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وهو صحيح.]،
وفي قنوت الوتر كان يقول: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت...)
[رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم، وهو صحيح.].
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمسى أو أصبح لا يدع هؤلاء الكلمات: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي) [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وهو صحيح.]،
وعند النوم كان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها، لك مماتها ومحياها إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية) [رواه مسلم.]،
وعندما كان يزور القبور كان يقول لأهلها: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية) [رواه مسلم.]،
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم أمتعني بسمعي وبصري، حتى تجعلهما الوارث مني، وعافني في ديني وفي جسدي) [رواه الحاكم، وهو صحيح.]،
وكان عليه الصلاة والسلام يعلّم أصحابه الدعاء بالعافية؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله، أي الدعاء أفضل؟ قال: (سلِ اللهَ العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ثم أتاه الغد، فقال: يا نبي الله، أي الدعاء أفضل؟ قال: (سلِ اللهَ والعافية في الدنيا والآخرة، فإذا أعطيت العافية في الدنيا والآخرة، فقد أفلحت) [رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو صحيح.]،
وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: ( اللهم اغفر لي وارحمني، واهدني وعافني وارزقني) [رواه مسلم.].
أيها الأحبة الفضلاء، إن العافية من أعظم عطايا الله للعبد، وأفضل قِسَمه له، فهي أفضل من الغنى والجاه والسلطان، ولا تطيب هذه الأشياء لأصحابها إلا بالعافية،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) [ رواه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي وابن ماجه، وهو حسن.]،
وعن عبد الله بن خُبيب الجهني، عن أبيه عن عمّه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه لا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خيرٌ من الغنى، وطيب النفس من النعم)
[رواه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد وابن ماجه، وهو صحيح.].
قال الشاعر:
إذا ما كساك الله سربالَ صحة
ولم تخلُ من قوت يحلّ ويقربُ
فلا تغبطنْ أهلَ الكثير فإنما
على قدر ما يعطيهمُ الله يَسلب
فيا من فاته الملك أو الغنى وهو توّاق إلى ذلك، لا تحزن ما دمت معافى؛ فعندك كنز ثمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية)
[ رواه الترمذي وأحمد، وهو صحيح.].
وقيل في الحِكَم: إن "العافية هي الملك الخفي"، فكم من أصحاب الرئاسة والجاه أناس يبحثون عن العافية، حتى إنهم يغبطون أهلها عند الموت، فعن قبيصة بن ذؤيب قال: "كنا نسمع نداء عبد الملك من وراء الحجرة في مرضه: يا أهل النعم، لا تستقلوا شيئاً من النعم مع العافية".
قال الشاعر:
لا تأسَ من دنيا على فائتٍ
وعندك الإسلام والعافيه
إن فاتَ شيء كنتَ تسعى له
ففيهما من خلَفٍ كافيه
ويا أيها الفقير المعافى، احمدِ الله على نعمته العظيمة عليك، ولا تحسد الأغنياء على غناهم؛ فكم من غني بالمال فقير من العافية!، فماذا نفعه غناه وقد ذهبت عنه الصحة التي فحرم طعم الملذات، حتى صار لا يأكل إلا أطعمة معدودة، ولا يشرب إلا أشربة محصورة؛ ولهذا قيل: " صحة الجسم أوفر القِسم"، وقال حكيم: " إن كان شيء فوق الحياة فالصحة"، وقيل: " من أوتي العافية فظن أن أحداً أوتي أكثر منه فقد قلّل كثيراً، وكثّر قليلاً"، وقيل: " الدنيا بحذافيرها الأمن والعافية"، قال الشاعر: "
إني وإن كان جمعُ المال يعجبني
فليس يعدل عندي صحةَ الجسد
في المال زينٌ وفي الأولاد مكرمة
والسقم ينسيك ذِكْرَ المال والولد
عباد الله، بالعافية يجد المعافى طعمًا للطيبات والملذات، وبفقدانها لا يجد لها شيئًا من ذلك، بل إن المعافى يستطيب الطعام القليل، ويستحسن الزاد الرديء، وغير المعافى لا يجد لذة لألذ الملذات، ولا طعمًا لأطيب الطيبات، حجّ الحجاج فنزل مكانًا فدعا بغدائه، فقال لحاجبه: "انظر من يَتَغدى معي وأسألُه عن بعض الأمر؛ فنظر الحاجبُ فإذا هو بأعرابيٍّ بين شَمْلتين من شَعَرٍ نائم، فضربه برجليه وقال: ائت الأميرَ، فأتاه؛ فقال له الحجاج: اغسِلْ يدك وتَغَدَ معي، قال: إنه دعاني مَنْ هو خيرٌ منك فأجبته؛ فقال له الحجاج: من الذي دعاك؟. قال: اللهّ تعالى دعاني إلى الصوم فصُمت، قال: في هذا اليوم الحارّ! قال: نعم، صُمتُ ليوم أحرَّ منه، قال: فأفطِر وتصوم غداً؛ قال: إن ضمنتَ لي البقاءَ إلى غد، قال: ليس ذاك إلي، قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه! قال: إنه طعامٌ طيب؛ قال: إنك لم تُطَيبه، ولا الخبًاز، ولكن طيّبته العافية".
أيها الأحبة، إن العافية لما كانت في هذه المنزلة السامية، ولها هذا الفضل العظيم؛
كانت من النعيم الذي يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة: ماذا عمل به؟،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء البارد؟!)[رواه الترمذي والحاكم، وهو صحيح.]؛
ولهذا قال علي وابن عباس رضي الله عنهم في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر:8]: " عن الصحة".
أيها المسلمون، إن نعمة العافية من أكثر النعم التي لا يقدرها كثير من الناس قدرها، ولا يشكرون الله تعالى عليها، ويظهر هذا التغافل والكفران في أقوالهم وأحوالهم، فكم من إنسان يرفل في ثوب العافية، ولكنه ينسى من كساه إياه!، ويتنعم بالنعمة فينسى المنعم بها عليه، فإذا ذهبت عافيته تذكر أنه كان في نعمة؛ ولذلك قيل:
والحادثات وإن أصابك بؤسها .. فهو الذي أنباك كيف نعيمها
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ) [رواه البخاري.].
روي عن جعفر بن محمد أنه قال: "العافية موجودة مجهولة، والعافية معدومة معروفة" - وأراد بقوله: العافية موجودة معدومة: أن الناس عرفوا العافية ولم يعرفوا قدرها حتى يبتلوا، والعافية معدومة معروفة يعني: أن المبتلى ببلية يعدم معها العافية فحينئذ يعرف قدرها.
فالعافية لذة عظيمة قد لا يعرف ملتذها حلاوتها إلا حين ذهابها، خلافًا لحاله في اللذات الأخرى التي يلتذ بها عند حضورها، وينساها عند غيابها.
وكم من إنسان يجاوز حدودَ النسيان إلى ركوب العصيان بعافيته، فيستثمر نعمة العافية في جسده وأحواله بترك الواجبات، وفعل المحظورات، فالصلاة إذا ذُكرت لم يكن من أهلها، وإذا دُعي إلى الواجبات الأخرى لم يُجب داعيَها!، ولكنه حينما تُذكر المعاصي التي تعتمد على العافية فإنه من روّادها والمسرعين إليها!.
وكم من الناس من يتربى في حضن العافية فلا تخطر بباله الآلام والبلايا؛ فلذلك يعيش ساخراً من أهل البلاء، غليظًا عليهم، غير راحم لهم، وكأن قطار البلاء لن يمر به فيركب عليه كما ركب غيره.
فما أحوجَ هؤلاء الغافلين تحت ظلال العافية إلى اليقظة؛ ليحرسوا هذه النعمة من هجوم البلاء الوشيك؛ بسبب غفلتهم عما يجب عليهم فعله وهم مطمئنون في حصن العافية، كان عبد الأعلى التيمي يقول: "أكثروا سؤال العافية؛ فإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء، وما المبتلَون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس، وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم، فما يأمن من أطال المقام على معصية الله أن يكون قد بقي له في بقية عمره من البلاء ما يحذره في الدنيا، ويفضحه في الآخرة".
عباد الله، إن نعمة العافية تبقى للإنسان ما دام من أهل التقوى الذين يتقون الله بفعل ما أمر، وترك ما نهى،
وقد قيل: " من اتقى الله لبس العافية، وحمد العاقبة"،
وكان شيخ من الأعراب يدور على المجالس ويقول: "من سره أن تدوم له العافية فليتقِ الله"، وكم لطاعة الله تعالى من آثار صحية على الروح والبدن في الدنيا والآخرة،
فكم تحدث الأطباء والعلماء عن الفوائد الصحية للعبادات ومنها: الصلاة والصيام،
قال ابن القيم رحمه الله: " ولا ريب أن الصلاة نفسها فيها من حفظ صحة البدن، وإذابة أخلاطه وفضلاته، ما هو من أنفع شيء له، سوى ما فيها من حفظ صحة الإيمان، وسعادة الدنيا والآخرة، وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة، ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب،
كما في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)".
ومن أسباب بقاء العافية: معرفة عِظم قدرها، وشكر معطيها سبحانه وتعالى، فمن عرف قدر النعمة حفظها، وأدى حق من منحه إياها، وجعله يسعى في استغلالها فيما ينفع،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)[ رواه الحاكم، وهو صحيح.]،
وفي البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: " وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
ومن أسباب بقاء العافية: النظر بعين الرحمة والإحسان لمن ذهبت عنهم هذه النعمة، فزيارة أهل البلاء، وقراءة أخبارهم، والإشفاق عليهم؛ تدفع من فعل ذلك إلى حراسة عافيته من أسباب الزوال، ورفدها بوسائل البقاء.
تابع قراءة باقي الخطبة في الأسفل