درس انطباق الفكر مع الواقع الاستقراء شعبة علوم تجريبية وشعبة رياضيات :
ـ الاستقراء
الاستقراءInduction
الاستقراء في اللغة هو التتبع ، وفي الاصطلاح هو عملية ذهنية يتتبع خلالها الفكر أحوال أفراد النوع الواحد بحيث إذا كان حكمه على كل فرد مماثلا لحكمه على سائرها ، اصدر حكما عاما يشمل النوع كله، فهو انتقال الفكر من أحكام جزئية إلى أحكام أو حكم كلي وعام . وقد عرفه الخوارزمي بقوله : " الاستقراء هو تعرف الشيء الكلي بجميع أشخاصه " وعرفه الغزالي : " هو أن تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حكمت على ذلك الكلي به " وهو نوعان يشير إليهما ابن تيمية بقوله " هو الاستدلال بالجزئي على الكلي والاستقراء يكون يقينيا إذا كان الاستقراء تاما لأنه حينئذ نكون قد حكمنا على القدر المشترك بما وجدناه في جميع الأفراد وإلا فهو ناقص ".
أنواع الاستقراء
1 ـ الاستقراء التام : يشمل كل الظواهر والأفراد الذين هم قيد الدراسة فنحكم على الكلي بما حكمنا به علي الجزئي .
2 ـ الاستقراء الناقص : لا يشمل جميع الظواهر والأفراد والذين هم قيد الدراسة بل يخص بعضها والفكر يحكم من خلال البعض على الكل وجميع العلوم التجريبية تقوم عليه . وفي كلا النوعين يكون الباحث في حاجة للمنهج التجريبي ، ويتكون من ثلاثة خطوات وهي الملاحظة والفرضية ، والتجربة ـ المنهج التجريبي وخطواته ، يفصل في مشكلة العلوم التجريبية ـ والتجربة تأتي للتحقق من الفرضية عن طريق إعادة التجارب مرات عديدة ، وفي ظروف معينة ، لكن جون ستوارت مل حاول أن يحد من عدد التجارب التي تهدف للتحقق من الفرض عن طريق ما يعرف بقواعد الاستقراء .
التحقق من الفروض عند "مل"
وضع جون ستوارت مل ، قواعد للتحقق من الفروض ، وهي :
1 ـ طريقة الاتفاق أو التلازم في الوقوع :
مفادها انه إذا اشتركت حالتان أو أكثر للظاهرة المراد بحثها في عامل واحد كان هذا العامل الذي يثبت في جميع الحالات هو سبب الظاهرة وأساس ذلك تلازم العلة والمعلول في الوقوع ويتطلب تطبيق هذه الطريقة جمع اكبر عدد من حالات الظاهرة مع تنوع هذه الحالات فبتحليل العناصر يتبين أن السابق الثابت هو علة اللاحق الثابت ويمكن أن يرمز إلى ذلك على الوجه التالي :
أ ، ب ، ج س ، ط ، ل "حالة للظاهرة "
أ ، د ، هـ س ، ط ، ل " حالة أخرى لنفس الظاهرة
اتفقت الحالة الأولى مع الحالة الثانية في أ و س
فهنا يتبين أن الثابت السابق أ هو العلة واللاحق س هو المعلول ومثل "مل" على هذه الطريقة ، بان التركيب البلوري لأجسام مختلفة ينجم عن مرور الجسم من حالة السيولة إلى حالة التجمد دائما .
2 ـ طريقة الاختلاف أو التلازم في الاختلاف :
إذا كان هناك عاملان في ظاهرة معينة يتلازمان في الوقوع ، فإذا حدث أن غاب العامل الأول ولوحظ غياب العامل الثاني الملازم له لاستخلصنا من هذا أن الأول علة الثاني .
أ ، ب ، ج س ، ص ، ع " حالة للظاهرة "
ب ، ج ، ص ، ع " حالة أخرى لنفس الظاهرة "
نلاحظ انه ترتب على غياب أ غياب س وعلى ذلك أ هو علة س ومن أمثلة ذلك العلاقة بين الأكسجين والتنفس فغياب الأول يؤدي إلى الاختناق .
3 ـ الجمع بين الاتفاق والاختلاف :
إذا كانت لدينا حالتان تحدث فيهما الظاهرة ولوحظ أن هاتين الحالتين تختلفان في كل شيء ماعدا عاملا واحدا وإذا كانت لدينا حالتان أخريان لا تحدث فيهما تلك الظاهرة ولوحظ أنهما يتفقان في أمر واحد فقط هو غياب ذلك العامل فنستنتج أن ذلك العامل الموجود في الحالتين الأوليين والغائب في الحالتين الأخيرتين هو علة الظاهرة وملخص ذلك إذا حظرت العلة حضر المعلول وإذا غابت العلة غاب المعلول .
4 ـ التغير النسبي :
وهي طريقة التلازم في التغير ويقصد بها أن أي تغير يحدث للعلة يستتبع التغير في المعلول ، وهذه الطريقة لا تستلزم إيجاد العلاقة بين ظاهرتين وإنما تستهدف فقط تحديد العلاقة بينهما تحديدا كميا ، ومن أمثلة ذلك التلازم العكسي بين حجم الغاز والضغط الواقع عليه ، وهو احد القوانين المشهورة التي اكتشفها بويل .
5 ـ طريقة البواقي :
إذا كانت لدينا ظاهرة تشمل مجموعة من العناصر تبين بالطرق السابقة ، العلاقة العلية بين بعضها والبعض الأخر ، فان ما بقي منها يرتبط ارتباط علة بمعلول ، فإذا كانت أ ، ب ، ج علل د ، هـ ، و. وأثبتنا أن أ علة د ، و أن ب علة هـ ، فان ج الباقية هي علة و . وقد أورد "مل" المثال التالي : إذا علقنا إبرة ممغنطة بخيط من حرير ، ثم حركناها فوق وعاء من نحاس ، لشاهدنا أن رجوعها إلى السكون أسرع ، وليس أمامنا إلا عاملان يمكن اعتبارهما علة لهذه الظاهرة ، وهما مقاومة الهواء ومقاومة الخيط ، فإذا أسقطنا تأثير هذين العاملين لم يعد لدينا إلا سبب واحد ، وهو وعاء النحاس ، فهو المعيق لحركة الإبرة ـ نقلا عن كتاب أسس المنطق والمنهج العلمي لـ : محمد فتحي الشنيطي .
ـ الاستقراء والأحكام المسبقة
من المفروض منهجياً عند اعتماد المنهج التجريبي ، أن يتجنب الباحث أي سوابق أحكامٍ ، ولكن الباحث في واقع ممارسته للبحث ينطلق وهو مؤمن مسبقاً بمبادئ كلية مجردة غير مثبتة علمياً مثل : الحتمية ، السببية ، و أطراد الحوادث ، فكيف السبيل إلى حلِّ هذا التعارض ؟
ضرورة استبعاد الأحكام المسبقة من البحث العلمي :
الأحكام السابقة préjugés هي الآراء التي يكونها العقل ، بالاعتماد على الموروث الثقافي، دون عرضها على التجربة للتأكد من صدقها ، وقد تصدى لها فرنسيس بيكون ، ووصفها بالأوهام، التي يجب الحذر منها .
ضرورة التسليم بأحكام مسبقة تتقدم التجربة :
إن البحث العلمي لا يمكن أن يصل إلى غايته ، إذا استبعد الباحث هذه المبادئ :
1 ـ مبدأ السببية العلمية
السبب هو ما يحدث شيئا آخر ، والسببية هي العلاقة القائمة بين السبب والمسبب ، مادام لكل شيء سبب . وجاءت كنتيجة لاقتران بعض الظواهر بظواهر أخرى متتابعة ، فتكون الأولى علة الثانية . وكانت السببية عند القدماء ينظر إليها بوصفها قانون يفسر الظاهرة ، وتقوم السببية على فكرة التتابع الزمني .
ولكن في العصر الحديث بدا التخلي عن السببية بوصفها مبدأ فلسفي ميتافزيقي يهتم بالبحث في الأسباب القريبة والبعيدة . ومن الرافضين لمبدأ السببية "دفيد هيوم " الذي قال :" عندما نقول أن شيئا مقترن بشيء آخر ، فإننا نريد فقط أن نقول أن هذين الشيئين قد اقترنا في ذهننا ، وأنهما يولدان هذا الاستنباط الذي يجعل كل واحد منهما دليلا على وجود الآخر " فأنكرها وردها إلى التعود كما رفضها " اوجست كونت " واعتبرها مبدأ فلسفي .
2 ـ مبدأ اطراد الظواهر
الظواهر الطبيعية تحكمها قوانين دقيقة تجعل عناصرها تتحرك بشكل أطرادي ، أي كل حركة تؤدي إلى حركة وهكذا . واطراد الظواهر يعني أن الكون منظم لا فوضى فيه .
3 ـ مبدأ الحتمية
إذا تكررت نفس الشروط ، فإن الظواهر نفسها ، ستحدث من جديد . وهذا هو مبدأ الحتمية الذي اخذ مكان السببية ، ومبدأ الحتمية حسب غوبلو هو انه " إذا اعتبرنا أن العالم متسق ، تجري حوادثه على نظام دائم ، وان نظام العالم كلي عام ، لا يشد عما هو عليه" بمعنى أن العالم يحكمه النظام ، وظواهره مضطردة . ويعتبر كلود برنار أن الحتمية أساس التفكير العلمي يقول:" إن مبدأ الحتمية مبدأ عام يشمل العلوم الطبيعية كلها ، لأنه ضروري لعلوم الأحياء كما هو ضروري لعلم الفيزياء والكيمياء " ويقول أيضا : " في العلم مسلمة ضمنية لجميع القوانين العلمية، وهي أن ثمة حتمية تقتضي أن تأتي الظواهر في المستقبل على نفس النسق الذي جاءت عليه في الماضي والحاضر " ويضيف : " لا يمكن أن يخطر بذهنه ـ ذهن الباحث ـ فكرة إنكار مبدأ الحتمية المطلق للظواهر، لان الشعور بهذا المبدأ هو الصفة المميزة التي يتميز بها العلم الجدير بهذا الاسم على وجه التحقيق ." ويقول: " إن عالما لا تسوده الحتمية هو عالم موصد في وجه العلماء ، العلم بطبيعته حتمي " كما أن الإيمان بالحتمية لا يترك مجالا للصدفة أو الاحتمال يقول " لابلاص " (1719 ـ 1827 ) :" يجب علينا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة ، وسببا في حالته التي تأتي بعد ذلك مباشرة " ويرى انه بالإمكان أن يصبح المستقبل والحاضر ماثلا أمامنا إذا توفرنا على شروط ذلك من ذكاء ومعرفة لحقائق الأمور " .
ـ الاستقراء والحقيقة
تابع القراءة في الأسفل
.......................