فتوحات موسى بن نصير في الأندلس :
موسى بن نصير في الأندلس
أتمّ موسى بن نصير فتح جميع بلاد المغرب ووصل بحدود دولة الإسلام إلى بحر يسمى بحرالظلمات (المحيط الأطلسي حاليا) ، وقدر لهذا الرجل أن تكتب على يديه صفحة من أعظم صفحات مجد الإسلام، فلم يكتف بفتخ المغرب كله ونشر الإسلام فيه بل تطلع إلى فتح شبه الجزيرة الإيبيريَّة "الأندلس" التي كانت تعاني في ظل حكم مملكة القوط الباغية التي اشتهر حكامها بالفساد و التسلط و التجبر .
كان أهم ما يشغل بال ابن نصير ، كتمهيد حقيقي لفتح إسبانيا ، ثغر سبتة الحصين شمال بلاد المغرب الذي كان لا يزال خارج سلطته وسيطرته ، فمازالت سبتة تابعة لإسبانيا يحكمها الكونت القوي يوليان ، فلا يمكن الشروع في أي عمليات عبور لإسبانيا دون السيطرة على هذا الثغر المغربي المهم.
كان موسى بن نصير ذكيا و طموحا ، فرغم أعوام عمره التي قاربت السبعين كان موسى لا يزال محتفظا بنشاط شاب في العشرين لذلك كان يتربص ببلاد الإسبان علَّه يجد ثغرة ينفذ منها إلى أوروبا .
وبينما هو يُفَكِّر في هذا الأمر إذ جاءه رسول من قِبَل طارق بن زياد والي طَنْجَة يُخبره بأن يُوليان حاكم سبتة عرض عليه أن يتقدَّم لغزو إسبانيا ، وأنه على استعداد لمعاونة العرب في ذلك، وتقديم السفن اللازمة لنقل الجنود المسلمين ، والذي كان يكن كرها شديدا لملك القوط رودريك .
وكان عرض يوليان يعكس ما يجري على أرض الإسبان من حرب أهلية بين الملك وتيزا (المعروف عند العرب باسم غيطشة) ، ومنافسيه على العرش وعلى رأسهم ردريك بن دوق تيودوفرد (المعروف أكثر باسم لذريق)، وهي الحرب التي خربت البلاد وهدمت المعاقل والحصون .
ولم تنته الحرب بهزيمة الملك وتيزا وانتصار ردريك (لذريق) ووصوله إلى عرش القوط ، فقد اتصل مناوئوه من الحزب المهزوم بـ"يوليان" حاكم سبتة ، باعتباره أقوى حكام القوط للعمل على الإطاحة بردريك من على العرش ، أضف إلى ذلك أن يوليان كان لديه ثأر شخصي مع لذريق ، الذي غدر بابنة يوليان واغتصبها، فلما وصلت الأنباء إلى يوليان أقسم على أن ينتقم لشرفه المغتصب من لذريق ، ورأى أن يستعين بالعرب لتنفيذ مخططه.
وجد موسى بن نصير أن هذه فرصة كبيرة فسارع وكتب للوليد يخبره بدعوة يوليان ، واستأذن الخليفة فى غزو تلك البلاد ، ظل الخليفة متوجسا ، وجاء رده سريعا إلى موسى يحذره من مخاطر خوض البحر قبل دراسة البلاد و اختبار طبيعتها و معرفة أحوالها وألا يزج بالمسلمين في أهوال البحر ، وألا يخاطر موسى بن نصير بقيادة الجيش ، حتى إذا تعرض الجيش الإسلامي للخيانة في بلاد الأندلس لا يحدث اضطراب كبير في بلاد المغرب لوجود موسى فيها ، أما إذا قُتل فقد تكون فتنة لا يعلم إلا الله مداها .
إلا أن موسى طمأنه بأنه ليس بحرًا وإنما خليج ، فرد الوليد بأنه وإن كان خليجًا عليه أن يختبر وعود يوليان بالسرايا ، أي بالحملات الصغيرة ، صدع موسى بالتعليمات القادمة من عاصمة الخلافة دمشق ، واتخذ من طنجة مقرا يهيئ فيه عدة الفتح ومركزا أعلى لقيادة القوات ، وبدأ موسى مشروعه بمحاولة صغيرة ، استطلاعية ، فأرسل موسى في سرية من 400 مقاتل ومائة فارس بقيادة طريف بن مالك ، فعبروا البحر من سبتة في أربعة سفن قدمها يوليان ، إلى الجهة المقابلة من الساحل الإسباني ، فنزلوا جزيرة سميت بعد ذلك بجزيرة طريف ، فعادت الكتيبة محملة بالغنائم الكثيرة وذلك في رمضان سنة 91هـ/ 710م
عندئذ جهز موسى جيشا كبيرا يضم سبعة آلاف مقاتل من العرب والبربر وأكثرهم من البربر ، وولى قيادته طارق بن زياد ، وأمره بالعبور للأندلس عام 92 هـ
عبر طارق بن زياد البحر بجيشه تباعا من سبتة في سفن يوليان ، ونزل أولا في يوم (الاثنين) الخامس من رجب سنة 92هـ/ 27 أبريل سنة 711م) بتلك الجزيرة الصخرية التي تحمل اسمه حتى يومنا هذا "جبل طارق" ، والتي تتحكم في واحد من أشهر وأهم مضايق العالم ، وانتظر طارق حتى اكتملت قواته وجيشه الذي كان يقوم على البربر حيث لم يتجاوز عدد العرب ثلاثمائة معظمهم من القادة من بين سبعة آلاف مقاتل.
بدأ طارق نشاطه بمهاجمة ولاية الجزيرة الخضراء ، في جنوب إسبانيا ، وهزم حاكمها القوطي تيودومير وفتح مدنها تباعا ، هنا شعر حكام الولايات المجاورة بالخطر يتهددهم فما كان إلا أن بعثوا برسائل استغاثة للملك لذريق ، الذي كان مشغولا بحروبه ضد قبائل البشكنس الشرسة في الشمال، فأمر بإنهاء الحرب والعودة إلى عاصمة ملكه طليطلة وقد شعر بفداحة الخطر المحيق بعرشه ودولته ، وتقدم الملك لذريق بقواته صوب الجنوب في جيش ضخم قدر بمائة ألف جندي.
فلما أدرك "طارق بن زياد" ما أعد له القوط من عدة و عتاد ، فأرسل يطلب العون في ظل هذا الظرف العصيب ، فجاءه المدد من موسى بن نصير بخمسة آلاف مقاتل ، فبلغ جيش المسلمون اثني عشر ألفا ، وانضم ، فحقق المسلمون النصر العظيم عند وادي لكة ، وفر رودريك هاربا ، ليزحف بعدها طارق بن زياد نحو مدن الأندلس ، ففُتحت قرطبة وألبيرية وغيرها.
للعلم : معركة وادى لكة :
هى معركة فيها التقى الجيشان في 28 رمضان 92 هـ الموافق 17 يوليو ، لسنة 711م قرب شذونة جنوب
بحيرة خندة عند وادي لكة في معركة استمرت سبعة أيام متتالية ، وقد تمكن الجيش الإسلامى من هزيمة جيش رودريك وذلك بجلده وثباته ووحدة كلمته ، على الرغم من قلة عدد جنده ، وقد ألحق هزيمة ساحقة بالقوط في اليوم السابع للقتال وتشتت الجيش القوطي إلى الأبد رغم ضخامته وعامل الأرض الذي يضاعف من حظوظه ، إلا أنه كان مختل النظام منحل الأوصال ، وعندما اشتد القتال هرب معظم مقاتليه من ساحة المعركة ، و أخذ كل فرد في العمل على نجاته.
أما الملك لذريق نفسه، فقد اختفى ولم يعثر له على أثر، والغالب وفقا للروايات التاريخية أن لذريق قد ركب جواده وفر من ساحة المعركة بعد أن أيقن بالهزيمة، وأنه قد غرق في مياه النهر فلم يعثر له على جثة تدفن أو أثر يدل عليه إلا فرسه المكلل بالذهب.
هكذا كانت موقعة وادي لكة فاصلة في تاريخ غرب أوروبا ، فقد زالت فيها دولة القوط من على صفحة التاريخ ، بعد أن لبثت زهاء ثلاثمائة عام منذ قيامها ، وغنم العرب في تلك الحرب القصيرة ملك إسبانيا، ففتحت هذه المعركة أبواب المدن الإسبانية أمام التقدم الإسلامي تباعا
ثم قسم طارق جيشه فبعث مغيث الرومي مولى الوليد بن عبد الملك في سبعمائة فارس إلى قرطبة ، وأرسل مجموعات أخرى إلى إلبيرية ، وتوجه هو بباقي الجيش إلى طليطلة.
نجحت مجموعات قرطبة وإلبيرة ورية في فتح تلك المناطق ، كما دارت معركة صغيرة بين المسلمين والقوط في تدمير ، نتج عنها معاهدة بين المسلمين وقائد القوط ثيوديمير.
عاصمة القوط
زحف طارق بجيشه شمالا صوب طليطلة ، وهزم فلول القوط أمامه وفتح عددا من مدن الأندلس المهمة كقرطبة وتدمير ومرسية ، وصل بجيش الفتح أمام أسوار طليطلة حاضرة القوط ومقر عرش ملكهم ، وكان القوط قد فروا منها ، فدخلها دون مقاومة تذكر ، ولم يجد بها إلا عددا قليلا من اليهود والنصارى ، فأبقى عليهم وترك لهم دور عبادتهم يمارسون طقوسهم وشعائرهم بكل حرية.
وتحصل للمسلمين من الغنائم والتحف والمجوهرات ما لم يسمع بمثله في فتح من الفتوح، إلا أن أشهر تلك القطع الفنية تلك المائدة القوطية الثمينة الذائعة الصيت التي عدت من تحف القرون الوسطى، ونسبت صناعتها لجمالها وروعتها إلى الجن المسخر للنبي سليمان "عليه السلام " ، وعرفت لذلك بمائدة سليمان.
لم يهدأ طارق بما حققه من غنائم ومكاسب بعد فتح طليطلة وإسقاط مملكة القوط ، فقد أبى إلا أن يتتبع فلول القوط الذين تحصنوا بجبال جليقية الشامخة في أقصى بلاد الإسبان ، ووصل طارق إلى حدود خليج بسكونية ، فكان خاتمة زحفه ونهاية فتوحاته ، ورده عباب المحيط عن التقدم ، كما رد عقبة بن نافع في المغرب من قبل ، فعاد إلى طليطلة.