خطة الناصر لدين الله ومتابعة الأخطاء في معركة العقاب
تكملة للأخطاء السابقة فقد وضع الناصر لدين الله خطة شاذَّة في ترتيب جيشه وتقسيمه، حيث لم يَسِر فيه على نهج السابقين، ولم يقرأ التاريخ كما قرأه المنصور الموحدي ويوسف بن تاشفين.. فقد قَسَّم جيشه إلى فرقة أمامية وفرقه خلفية، لكنه جعل الفرقة الأمامية من المتطوِّعين، وعددهم ستون ألفًا ومائة ألف متطوِّع، وضعهم في مقدمة الجيش ومِنْ خلفهم الجيش النظامي الموحدي
وإنْ كان هؤلاء المتطوعة الذين في المقدمة متحمسين للقتال بصورة كبيرة، فليست لهم الخبرة والدراية بالقتال، كما هو الحال بالنسبة لتلك الفرقة المنتخبة من أجود مقاتلي النصارى، والتي هي في مقدمة جيشهم.
فكان من المفترض أن يضع الناصر لدين الله في مقدمة الجيش القادرين على صدِّ الهجمة الأولى للنصارى؛ وذلك حتى يتملَّك الخطوات الأولى في الموقعة، ويرفع بذلك من معنويات المسلمين ويحطَّ من معنويات النصارى، لكن العكس هو الذي حدث؛ حيث وضع المتطوعة في المقدمة.
ولقد زاد من ذلك -أيضًا- فجعل الأندلسيين في ميمنة الجيش، وما زال الألم والحرقة تكمن في قلوبهم من جرَّاء قتل قائدهم الأندلسي المجاهد المغوار أبي الحجاج يوسف بن قادس، فكان خطأ كبيرًا -أيضًا- أن جعلهم يتلقَّوْنَ الصدمة الأولى من النصارى
فنستطيع الآن حصر أخطاء الناصر لدين الله وهو في طريقه نحو العقاب على النحو التالي:
أولاً: إطالة الحصار لقلعة سلبطرة حتى تمكَّن النصارى من الاستعداد والتجهز.
ثانيًا: الاستعانة ببطانة السوء، الممثِّلة في وزير السوء أبي سعيد بن جامع.
ثالثًا: قتل القائد الأندلسي المشهور أبي الحجاج يوسف بن قادس.
رابعًا: تنظيم الجيش وتقسيمه الخاطئ في أرض الموقعة.
خامسًا: أمر في غاية الخطورة وهو الاعتقاد في قوَّة العدد والعدَّة، فقد دخل الناصر لدين الله الموقعة وهو يعتقد أنه لا محالة منتصر[15]؛ فجيشه أضعاف الجيش المقابل، ومن هنا تتبدَّى في الأفق سحائب حنين جديدة، يخبر عنها U بقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
موقعة العقاب .. والعقاب المر
موقعة العقاب والعقاب المرتمامًا وكما تكرَّرت غزوة حنين في أرض الأندلس قبل ذلك في بلاط الشهداء، وفي موقعة الخندق مع عبد الرحمن الناصر وهو في أعظم قوَّته، تتكرَّر حُنين -أيضًا- مع الناصر لدين الله في موقعة العقاب وهو في أعظم قوَّة للموحدين، وفي أكبر جيش للموحدين على الإطلاق، بل وفي أكبر جيوش المسلمين في بلاد الأندلس منذ أن فُتحت في سنة (92هـ=711م)، ولتوالي الأخطاء السابقة كان طبيعيًّا جدًّا أن تحدث الهزيمة، فقد هجم المتطوعون من المسلمين على مقدمة النصارى، لكنهم ارتطموا ارتطامًا شديدًا بقلب القشتاليين المدرَّب على القتال، فصدُّوهم بكل قوَّة ومزَّقوا مقدِّمة المسلمين، وقتلوا منهم الآلاف في الضربة الأولى لهم.
واستطاعت مُقَدِّمة النصارى أن تخترق فرقة المتطوِّعة بكاملها، والبالغ عددهم - كما ذكرنا- ستين ألفًا ومائة ألف مقاتل، وقد وصلوا إلى قلب الجيش الموحدي النظامي، الذي استطاع أن يصدَّ تلك الهجمة، لكن كانت قد هبطت وبشدَّة معنويات الجيش الإسلامي؛ نتيجة قتل الآلاف منهم، وارتفعت كثيرًا معنويات الجيش النصارى للنتيجة نفسها.
وحين رأى ألفونسو الثامن ذلك أطلق قوات المدد المدرَّبة لإنقاذ مقدمة النصارى، وبالفعل كان لها أثر كبير، وعادت من جديد الكرَّة للنصارى.
وفي هذه الأثناء حدث حادث خطير في جيش المسلمين، فحين رأى الأندلسيون ما حدث في متطوعة المسلمين، واستشهاد الآلاف منهم، إضافة إلى كونهم يُقاتلون مرغمين مع الموحدين -كما ذكرنا قبل ذلك- وأيضًا كونهم يعتقدون بالعدد وليس في الثقة بالله U، كل هذه الأمور اعتملت في قلوبهم، ففرُّوا من أرض القتال.
وحين فَرَّت ميمنة المسلمين من أرض الموقعة التفَّ النصارى حول جيش المسلمين، وبدأت الهلكة فيهم، فقُتل الآلاف من المسلمين بسيوف النصارى في ذلك اليوم، والذي سُمِّي بيوم العقاب أو معركة العقاب
هُزم المسلمون هزيمة قاسية، وفرَّ الناصر لدين الله من أرض الموقعة، ومعه فلول الجيش المنهزم المنكسر، والمصاب في كل أجزاء جسده الكبير.
وقد قال الناصر لدين الله وهو يفرُّ: صدق الرحمن وكذب الشيطان([17]). حيث دخل الموقعة وهو يعلم أنه منصور بعدده، فعلم أن هذا من إلقاء الشيطان وكذبه، وصدق الرحمن: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، فولَّى الناصر لدين الله مدبرًا.
ومما زاد من مرارة الهزيمة أنه ارتكب خطأً آخر لا يقلُّ بحالٍ من الأحوال عن هزيمته المنكرة السابقة وفراره من أرض المعركة، وهو أنه لم يمكث بعد موقعة العقاب في المدينَة التي تلي مباشرة مدينة العقاب، وهي مدينة بياسة، بل فرَّ وترك بَيَّاسَة، ثم ترك أبذة، ترك كلتيهما بلا حامية وانطلق إلى مدينة إشبيلية[18]، وما زالت قوَّة النصارى في عظمها، وما زالت في بأسها الشديد.
مآسي المسلمين بعد العقاب
مأساة بياسة
انطلقت قوَّة النصارى بعد عقاب المسلمين وهزيمتهم تلك في موقعة العقاب فاقتحمت بياسة، وكان أهلها قد هجروها خوفًا على أنفسهم، ولم يبقَ فيها إلاَّ الضعفاء والمرضى، وكانوا قد اجتمعوا بالمسجد الجامع الكبير في المدينة للاحتماء به، فقام النصارى بقتلهم جميعًا بالسيف.. قال المراكشي في المعجب: «فأما بياسة فوجدها - أي ألفونسو - أو أكثرها خالية فحرق أدؤرها وخرب مسجدها الأعظم
مأساة أبذة
قال صاحب الروض المعطار: أبذة مدينة بالأندلس بينها وبين بياسة سبعة أميال، وهي مدينة صغيرة وعلى مقربة من النهر الكبير، ولها مزارع وغلات قمح وشعير كثيرة جدًّا، وفي سنة تسع وستمائة مالت عليها جموع النصرانية بعد كائنة العقاب، وكان أهلها قد أنفوا من إخلائها، كما فعل جيرانها أهل بَيَّاسَة، ولم ترفع تلك الجموع يدًا عن قتالها حتى ملكتها بالسيف، وقُتل فيها كثير، وأسروا كثيرًا
وقال المراكشي في المعجب: ونزل -أي ألفونسو- على أُبَّذة، وقد اجتمع فيها من المسلمين عدد كبير من المنهزمة وأهل بَيَّاسَة وأهل البلد نفسه، فأقام عليها ثلاثة عشر يومًا، ثم دخلها عَنْوة، فقتل وسبى وغنم، وفصل هو وأصحابه من السبي من النساء والصبيان بما ملئوا به بلاد الروم قاطبة، فكانت هذه أشدَّ على المسلمين من الهزيمة
وقد تدهور حال المسلمين كثيرًا في كل بلاد المغرب والأندلس على السواء، حتى قطع المؤرخون بأنه بعد موقعة العقاب ما كنتَ تجد شابًّا صالحًا للقتال لا في بلاد المغرب ولا في بلاد الأندلس، فكانت موقعة واحدة قد بَدَّدت وأضاعت دولة في حجم وعِظَم دولة الموحدين
ثم إنَّ الناصر لدين الله قد انسحب أكثر مما كان عليه، فانسحب من إشبيلية إلى بلاد المغرب العربي، ثم اعتكف في قصره، واستخلف ابنه وليًّا للعهد من بعده، وهو بعدُ لم يتجاوز خمس عشرة من السنين.
وفاة الناصر لدين الله
ثم تُوُفِّيَ الناصر لدين الله بعد هذا الاستخلاف بعام واحد في سنة (610هـ=1214م) عن عمرٍلم يتجاوز الرابعة والثلاثين، وتروي بعض المصادر أنه مات وهو عازم على الجهاد في الأندلس «عزمًا لم يُعرف عن ملك قبله وتولَّى حكم البلاد من بعده وليُّ عهده وابنه المستنصر بالله، وعمره آنذاك ست عشرة سنة فقط
ومن جديد وكما حدث في عهد ملوك الطوائف تضيع الأمانة، ويُوَسَّد الأمر لغير أهله، وتتوالى الهزائم على المسلمين بعد سنوات طويلة من العلو والسيادة والتمكين لدولة الموحدين.
[1] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص399، وابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص263، 264، والحميري: الروض المعطار، ص416، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/109، وما بعدها.
[2] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص264.
[3] المقري: نفح الطيب، 1/446 والسلاوي: الاستقصا، 2/220، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عصر المرابطين والموحدين 2/108.
[4] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص260 – 265، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/249.
[5] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص236، والسلاوي: الاستقصا، 2/221، وثمة رواية أخرى ولها دلائل كثيرة تقول بأن فتح هذه القلعة كان في غزوة مستقلة، انظر: الحميري: الروض المعطار ص344، وابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص260، وعبد الواحد المراكشي: المعجب، ص399.
[6] يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/108.
[7] يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/112.
[8] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص401، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص238، والسلاوي: الاستقصا، 2/222، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/114.
[9] شوقي أبو خليل: العقاب، ص34، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/114.
[10] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص238، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/249.
[11] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، 2/275.
[12] المقري: نفح الطيب، 4/383.
[13] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص239، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/118.
[14] يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/118.
[15] انظر: المقري: نفح الطيب، 4/383، والسلاوي: الاستقصا، 2/220.
[16] انظر: شوقي أبو خليل: العقاب، ص45، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/119.
[17] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص239، والسلاوي: الاستقصا، 2/224.
[18] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص240، والسلاوي: الاستقصا، 2/224.
[19] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص402.
[20] الحميري: الروض المعطار، ص6.
[21] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص402.
[22] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/446.
[23] مجهول: الحلل الموشية، ص161، وابن الخطيب: رقم الحلل، ص60، والسلاوي: الاستقصا، 2/225.
عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص404، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 22/340، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/250، والسلاوي: الاستقصا، 2/226.