خطبة الجمعة بعنوان..
"في ذكرى مولده -صلوات الله وسلامه عليه-"
الحمد لله الذي أكمل لنا الدّين وأتمّ علينا النّعمة، وجعل أمّتنا ولله الحمد خير أمّه، وبعث فينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكّينا ويعلّمنا الكتاب والحكمة، نحمده سبحانه ونشكره على نعمه الجمّة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة، ونشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبده ورسوله، أرسله ربّه للعاملين رحمة، وفرض عليه بيان ما أنزل إلينا فأوضح لنا كل مهمّة، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه صلاة تكون لنا نورا من كلّ ظلمة، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتّقوا الله -عباد الله- حقّ التّقوى، فتقواه سبحانه خير زاد ليوم المعاد، ((وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى واتّقون يا أولي الألباب)).
معاشر المسلمين: يقول ربّنا -جلّ وعلا- ممتنّا على عباده المؤمنين: ((لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)).
فقد ذكَّر الله عبادَه المؤمنين منَّته عليهم وفضلَه بمبعث سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ليعرفوا قدرَ هذه النّعمة فيشكروه عليها، فإنّها نعمة ما بعدها نعمة. قال ابن رجب -رحمه الله-: "فإنّ النّعمة على الأمّة بإرساله أعظم من النّعمة عليهم بإيجاد السّماء والأرض والشّمس والقمر والرّياح والليل والنّهار وإنزال المطر وإخراج النّبات وغير ذلك. فإنّ هذه النّعم كلّها قد عمّت خلقًا من بني آدم كفروا بالله وبرسله وبلقائه، فبدّلوا نعمة الله كفرًا. وأمّا النّعمة بإرسال محمّد -صلى الله عليه وسلم- فإنّ بها تمّت مصالح الدّنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله الذي رضيه لعباده، وكان قبوله سبب سعادتهم في دنياهم وآخرتهم"اهـ.
عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- سئل عن صيام يوم الاثنين، فقال: «ذاك يوم ولدت فيه وأنزلت عَليَّ فيه النّبوة» [مسلم]، فصيام النّبيّ –صلى الله عليه وسلم- لهذا اليوم كان من باب مقابلة هذه النّعمة العظيمة في أوقات تجدّدها بالشّكر لله -جل وعلا-.
ونحن -عباد الله- في مطلع هذا الشّهر المبارك، شهر ربيع الاوّل، حريّ بنا أن نتذاكر هذه النّعمة لنقدرها حقّ قدرها، فنحن في شهر اختاره الله –عزّوجل- لرسوله -صلّى الله عليه وسلم-، فجمهور العلماء على أنّ هذا الشّهر هو شهر مولده -صلى الله عليه وسلم-، و هو الشّهر الذي بدأ فيه الوحي بالرّؤيا المناميّة على نبيّنا -عليه الصّلاة والسّلام-، ففي البخاري عن عائشة زوج النّبي -صلى الله عليه وسلم- قالت : "كان أوّل ما بٌدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرّؤيا الصّادقة في النّوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح"، وكان ذلك قبل ستّة أشهر من نزول القرآن في رمضان، أي في ربيع الاول. وفي هذا الشّهر دخل النّبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وقد جاء إليها مهاجرا من مكّة وأسّس بها دولة الإسلام، وفي هذا الشّهر التحق نبيّنا -صلوات ربي وسلامه عليه- بالرّفيق الأعلى.
إخوة الإسلام: ما أحوجنا ونحن بين يدي هذا الشّهر الكريم، ما أحوجنا أن نقف وقفة محاسبة مع أنفسنا ونتساءل: أين نحن من سيرة نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-؟، أين نحن من سنّته وأخلاقة وشمائله –عليه الصّلاة والسّلام-؟، نتساءل عن العلاقة بين هذه الذّكرى المتجدّدة التي نسعد بها كل عام، وبين واقعنا المعرض عن معظم ما جاء به هذا النّبيّ الكريم؟.
إنّ النّاظر في واقعنا اليوم -عباد الله- يرى أنّنا أصبحنا في زمن يجهل فيه كثير من المسلمين سيرة نبيّهم -صلوات الله وسلامه عليه-، بل -ويا للأسف- إنّ الكثير من شبابنا من الجنسين، يعرفون تفاصيل حياة بعض المشاهير من أهل الفنّ والطّرب والرّياضة أكثر من معرفتهم عن حياة نبيّهم وحبيبهم وقدوتهم محمّد -صلى الله عليه وسلم-.
إنّ واقعا كهذا -عباد الله- لا يمكن أن يقرّبنا إلى الله -عز وجل-، بل إنّه ليفرض علينا الخجل من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، إنّه ليفرض علينا أن نغرق في الاستحياء من هذا النّبيّ الكريم، لأننا بعيدون كل البعد عن سيرته والتّمثّل بأخلاقه وسنّته.
عباد الله: يقول ربّنا -جل وعلا-: ((لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر))، وإنّه يستحيل على من لا يعرف سيرة نبيّه أن يتأسّي به -صلوات الله وسلامه عليه-. فبمعرفة السّيرة تتحقِّقُ لنا معرفةَ نبيِّنا معرفةً تفصيليَّةً، وهذه المعرفة هي وحدها من تورِّثَ في نفوسنا حبَّه –صلى الله عليه وسلم- وإجلالَه وتوقيرَه وتعظيمَه، ثمَّ إنَّ هذه المحبَّة ستدفعُ بنا إلى متابعته في هديه والاقتداء به في سيرته، وبذلك يسعَدُ العبد في دنياه وآخرته. قال ابن القيِّم -رحمه الله-: "وإذا كانت سعادةُ العبدِ في الدَّارين مُعلَّقةً بهدي النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فيجِب على كلِّ من نَصح نفسَهُ وأحبَّ نجاتَها وسعادتَها، أن يعرفَ من هَديِه وسِيرتِه وشأنِه مَا يَخْرُجُ به عن الجاهلين بهِ، ويدخلُ به في عِداد أتباعِه وشِيعته وحِزبه، والنَّاس في هذا بين مُستقِلٍّ ومُستكثِرٍ ومحرومٍ، والفضلُ بيد الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفَضل العَظيم"اهـ.
أيّها المسلمون: إنّ بيتا يخلو من كتاب يتحدّث عن سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- هو بيت لا خير فيه، ولا يٌرجى منه أن يٌخرج للمجتمع قدوات صالحة نافعة، وإنّ من الواجب على الأولياء في هذا العصر -الذي كثرت فيه الفتن ورّوّج فيه للقدوات الفاسدة- أن يحرصوا على تربية أبنائهم على سيرة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان السَّلف –رضوان الله عليهم- يحثّون أبنائهم على تعلُّم السّيرة النَّبويّة ويعلَّمونهم إيّاها، قال زين العابدين علي بن الحسين "كنَّا نُعَلَّمُ مغازيَ النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما نُعَلَّم السُّورةَ منَ القرآنِ". وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: "كانَ أبي يُعلِّمُنا مَغازيَ رسُولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ويَعُدُّها عَلينا، وسَرَاياهُ؛ ويقولُ: هَذه مَآثِر آبائكُم فلا تضيِّعُوا ذِكْرَها".
بهذا صلح السّلف الأول ونشأ ذلك الجيل الفريد، وإنّه لا صلاح لهذه الأمّة إلا بما صلح به أوّلها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا...واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاسغروة
الخطبة الثانية
الحمد لله...
وبعد -أيّها المؤمنون-: إنّها منّة من الله عظيمة أن جعلنا من هذه الأمّة المحمّديّة، فمن كان من هذه الأمّة فهو من خير الأمم عند الله -عز وجل-، قال تعالى: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))، وقال صلّى الله عليه وسلّم: "أنتم توفون سبعين أمّة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل" [أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم].
قال ابن رجب -رحمه الله-: "لمّا كان هذا الرّسول النّبيّ الأميّ خير الخلق وأفضلهم، كانت أمّته خير أمّة وأفضلها، فما يحسٌنٌ بمن كان من خير الأمم وانتسب إلى متابعة خير الخلق، وخصوصًا من كان يسكن خير منازل المسلمين في آخر الزّمان إلّا أن يكون مُتّصفًا بصفات الخير، مجتنبًا لصفات الشّر، وقبيح به أن يرضى لنفسه أن يكون من شرِّ النّاس مع انتسابه إلى خير الأمم ومتابعة خير الرّسل، قال الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ))، فخير النّاس من آمن وعمل صالحًا"اهـ.
إخوة الإسلام: لقد أخبر الرّسول الكريم عن موقف رهيب سيٌطرد فيه أناس من أمّته عن حوضه، فقال -عليه الصّلاة والسّلام-: "إنّي على الحوض حتّى أنظر من يرد عليّ منكم، وسيُؤخذ ناس من دوني، فأقول: "يا ربّ، منّي ومن أمّتي!، فيٌقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟!، والله، ما برحوا يرجعون على أعقابهم" [البخاري]. وعند مسلم أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنِّي فرطُكُم على الحوض، وإنَّ عرضه كما بين أيلة إلى الجُحفة. إنِّي لستُ أخشى عليكم أنْ تُشركوا بعدي، ولكنِّي أخشى عليكم الدّنيا، أنْ تنافسوا فيها وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم".
وها أنتم ترون -عباد الله- كيف يمعن الكثير منّا في تبديل ما أمرنا الله -سبحانه وتعالى- بالمحافظة عليه، ها أنتم ترون المطامع الدنيوية وهي تأخذنا ذات اليمين وذات الشّمال، وإنّه لا عاصم لنا إلا سنّة نبيّنا والارتباط بسيرته والتّمسك بوصاياه عليه الصلاة والسلام.
يا بني الإسلام صونوا دينكم ** ينبغي للدّين أن لا يٌطّرح
واحــمــدوا الله الذي أكرمكم ** بنبـيّ قــام فـيكم فــــنصح
بـنبــــيّ فـــــتح الله بــــــــه ** كــلّ خــير نلـتــموه ومنح
مرسلٌ لو يوزن النّاس به ** في التّقى والبرّ خفّوا ورجح
فـــرسول الله أولى بالعلى ** ورســـــول الله أولى بالمدح
هذا وصلوا -عباد الله- على خير خلق الله، سيدنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم بذلك المولى جل في علاه، فقال عز من قائل قولا كريما: ((إن الله وملائكته يصلون على النبي...)).. فاللهُمَّ يا رَبَّنا ارزُقنَا مَحَبَّةَ نَبِيِّكَ واتِّبَاعَهُ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً,اللهم احشُرنَا في زُمرتِهِ وارزقنَا شَفَاعتَهُ وأوردْنَا حَوضَهُ واسقِنَا مِنْ يَدِهِ شَرْبَةً لا نَظمَأُ بَعْدَها أَبَدَاً,اللهم وارضَ عن صَحَابَتِهِ الكِرَامِ,والتَّابِعينَ لهم بِإحسَانٍ وإيمَانٍ,وعنَّا معهم يا رحيمُ يا رَحمَانُ,
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ, رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ,رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وَالله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ واقم الصلاة