الخصائص الفنية لشعر الحماسة ( الجزء الثاني)
البحث عن الصور الطريفة :
الصورة الشعرية هي روح الشعر و رونقه و جماله ؛ و هي المقياس الذي تقاس به شعرية الخطاب ، و شاعرية الشاعر. لهذا أولاها جهابذة النقد عناية خاصة و اعتبروها حِلْية الشعر، لأنه بدونها كلام موزون لا ألق له و لا جمال و لا تأثير.و قد استخدمت الصورة في الأداء الفني لمعاني الحماسة للتأثير في المتلقي و تحريك فكره و وجدانه معا.
و من الصور الطريفة عند المتنبي قوله في مدح سيف الدولة بمناسبة استرجاعه قلعة الحدث من أيدي الروم :
هل الحدث الحمراء تعرف لونها و تعـلم أيّ الساقـيَـيْن الغـمائم
سقـتها الغـمامُ الغُـرُّ قـبل نزوله ولمَّا دنا منها سقـتها الجماجم
هذه صورة لم يسبق إليها المتنبي لأنها من وحي الحدث ، و يقصد بها الشاعر تصوير قوة المعركة ، و فتك ممدوحه بالعدو ، فكنَّى عن ذلك بكثرة ما سفك من دمائهم . ثم عمد إلى إبراز هذه الكثرة فشبه الدماء السائلة من جماجمهم المُعَلَّقة على جدران القلعة بالمطر الغزير المُنْسَحِّ من الغمام ، وهذا غُلُوٌّ في الوصف ؛ ثم أوْغَلَ في المبالغة فجعل القلعة يغيب لونها الأصلي تحت غطاء الدماء . و الصورة على تعقيدها جميلة لتعدد عناصرها ( سحب/ جماجم – مطر/ دم – لون القلعة / لون الدماء...) و قوة إيحائها و سعة دلالتها .
و إليك صورة أخرى اخترعها النابغة الذبياني ثم تداولها الشعراء عبر العصور ، لكنهم طوروها و أكسبوها طرافة و ثراء دلاليا بما أضافوا إليها من المعاني . قال النابغة يصف جيش الغساسنة الخارج للغزو:
إذا ما غزوْا بالجيش حلّق فوقهم عصائب طير تهتدي بعصائــب
يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم من الضاريات بالدماء الدَّوارب
و قال أبو تمام بعده :
و قد ظللت عقبان أعلامه ضحى بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايـات حـتَّى كـأنَّها من الجيش إلا أنها لم تـقـاتـل
ثم قال المتنبي بعدهما :
له عسكرا خيل و طير إذا رمى بها عسكرا لم تبق إلا جماجمه
فالصورة التي استغلها الشعراء الثلاثة مستمدة من الواقع المحسوس ( الطيور الكواسر التي تأكل جثث القتلى عقب المعركة ) و لكن كل واحد منهم أضاف إليها من خياله. فأما النابغة فجعل الطيور تغير مع الجيش ، فهو يقتل وهي تأكل ، و أما أبو تمام فجعلها جزءا من الجيش لكثرة مصاحبتها له ،و لكنها لا تقاتل معه ، و أما المتنبي فتخيلها جيشا يقاتل تحت إمرة الممدوح. فرغم أن الصورة مستهلكة من قبل الشعراء منذ العصر الجاهلي ، إلا أنها ازدادت مع الزمان قوة في التعبير عن البطش و كثرة الحروب .
*- تهويل الصور والمشاهد وتضخيمها :
قد يعبر الشاعرعن المعنى الحماسي بصورة يتخيلها أو مشهد ينقله من واقع المعارك ثم يضفي عليه من خياله و فنه ما يضخمه و يهوّله فيخرج به من حيِّز الواقع إلى عالم الخوارق . فانظر إلى تصوير أبي تمام لحريق عمّورية على يد جيش المعتصم حيث يقول :
ضوء من النار و الظلماء عاكفة --- وظلـمة من دخان في ضحى شحب
فالشمس طالعة من ذا و قد أفلت --- والشمس واجـبة من ذا و لـم تـجـب
ألا ترى أنه استخدم الطباق ببراعة ( طالعة / غائبة – واجبة / لم تجب – ضوء / ظلماء ...) ليهوّل مشهد الحريق فيصبح ينافس الشمس ، و يعكس فعلها في الكون ، فهي طالعة غائبةً ، و غائبة طالعةً... )ويعاضد الطباقُ الجناسَ ( ضوء/ ظلماء – شجب / تجب / واجبة ...) فيوحي ترديد الأصوات بتواشح عجيب بين الشيء و ضده كوجوب الشمس وعدمه . و كل هذا يدل على قوة الممدوح .
*- الاحتفاء بالإيقاعين الداخلي و الخارجي.
في القصائد الحماسية يلعب الإيقاع دورا أساسيا في إشاعة نغَميَّة تناسب جوِّ القصيدة الحماسي ، وتساهم في بلورة المعنى و التأثير في المتلقي . وكثيرا ما يعمل الشعراء على تلوين الإيقاع بتعديد مظاهره وتنويع عناصره ( البحر – القافية – ترديد الأصوات – الجناس - التوازي التركيبي...) .
أ- الإيقاع الخارجي:
+) البحر :
البحور الأكثر استخداما في القصائد ذات النزعة الحماسية هي البحور الطويلة ، كالطويل و المديد و الكامل و الوافر و البسيط وهي تستخدم غالبا للأغراض الرصينة ذات الموضوعات الهامة والمواقف الجادة ، كالمدح و الفخر و الرثاء ، وهي الأغراض التي تتخللها المقاطع الحماسية عادة ؛ و قلما تستعمل البحور الخفيفة مثل الرمل و الهزج و الخفيف في قصائد الحماسة.
+) القافية :
القافية هي مجموعة من الحركات و السكنات من آخر ساكن في البيت إلى الحركة السابقة للساكن الذي قبله مثل قول المتنبي :
تظنُّ فراخ الفتخ أنك زرتها --- بأُمَّاتها و هي العِتاق الصَّلادِم(و)
فالقافية في هذا البيت هي {لادمو} ، و قد اشتملت على حرف "الدال" و فيه من صفات القوة ثلاث صفات : الجهر ، والشدة ، و القلقلة، و هي تجعل جرسه قويا يناسب ما يرمي إليه الشاعر من الإيحاء بصلابة خيول الممدوح و قوتها .
و هذا مثال آخر :
عليها غمام مكفهر صبيره --- له بارقات جمّة و رُعودُ(و)
هو بيت لابن هانئ في وصف حرّاقات المعز لدين الله الفاطمي ، و قافيته هي { عودو} تضمنت عينا و دالا ، الأول حرف حلقي مجهور ، و الثاني حرف مجهور شديد مقلقل ، وهما حرفان يجتمعان في كلمة {رعد} الموحية بقوة الانفلاق و الدويّ الذي توصف به قذائف الحراقات الرهيبة .
ب) الإيقاع الداخلي:
+ ) ترديد الأصوات :
لتكرار الحروف في البيت أو في القصيدة صلة وثيقة بالدلالة . و يمكن أن نضرب مثلا لذلك بهذا البيت للمتنبي في وصف جيش الروم الذي هزمه سيف الدولة في موقعة الحدث :
خميس بشرق الأرض و الغرب زحفه --- و في أذن الجوزاء منه زمازم
في هذا البيت تعلق الوصف الحماسي بزحف جيش العدوّ بعدده و عُدّتِهِ محدثا دويا شديدا يصعد إلى عنان السماء ، و أراد الشاعر بانتقاء الأصوات و ترديدها أن يملأ الأسماع بهذا الدَّوِيّ وهو ينشد القصيدة ، فكرر حرف الرّاء ثلاث مرّات ، و حرف الزّاي أربع مرات ؛ فالأول في نطقه تكرير و ارتجاج ، و الثاني فيه صفير ، وهي صفات قوة في الحروف العربية . واختار الشاعر هذين الحرفين و كرَّرَهما ليوحي للسامع أو المنشد للبيت بقوة الجيش الزاحف الذي ضجَّت بدويِّه الأرض شرقُها و غربُها و بلغت زمزمته نجوم الجوزاء.
و هذا مثال آخر : يقول أبو تمام في مدح الأفشين قائد جيش المعتصم :
و سارت به بين القنابل و القنا --- عزائم كانت كالقنا و القنابل
يرتكز جرس البيت على صوت القاف الذي تردد أربع مرات ، و حرف النون الذي تكرر ست مرات ، و حرف الباء الذي تعاود ثلاث مرات. وهي حروف مجهورة كلها ، و الباء و القاف حرفان شديدان مقلقلان. و لا ريب أن الشاعر تخير هذه الحروف ليحدث في البيت نغمة توحي بقوة عزيمة ممدوحه .