في تصنيف علوم ثقافية بواسطة

الاستطراد في رسالة الغفران تلخيص رسالة الغفران

تلخيص رسالة الغفران

ما معنى الاستطراد في رسالة الغفران

يُعتبر الاستطراد من أهمّ التّقنيات الفنيّة التي اعتمدها أبو العلاء المعرّي في "رسالة الغفران"، وليس الاستطراد من الظّواهر الفنيّة الجديدة، بل هو تقليد فنّيّ راسخ في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، وليس أدلّ على ذلك من كتابي "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيّان التّوحيديّ، و"الحيوان" للجاحظ، فكلاهما جمع بين مجموعة كثيرة من المواضيع والقضايا والظّواهر المعرفيّة والعلميّة والاجتماعيّة والدّينيّة، والاستطراد يعني "أنْ يجمع الكاتب بين مواضيع مختلفة في حديث واحد، وأنْ ينصرف من الموضوع الرّئيسيّ ليتناول الموضوع الفرعيّ، ويُسهب فيه إلى درجة تُنسي المتقبّل الموضوع الرّئيسيّ، وتُعطّل الاهتمام به". وأهمّ ما يُذكر بشأن الاستطراد في "الغفران" أنّه يُعطّل سير القصّة الرّئيسيّة، ويُهمّش البطل ابن القارح، ويُدخل المسرود له في مواضيع فرعيّة، فيطرح من خلالها مجموعة من القضايا التي تشغل المعرّي، وتثير أبناء عصره...

I ـ أنواع الاستطراد في "رسالة الغفران":

1 ـ الاستطراد السّرديّ: أهمّ استطراد في الرّسالة، وفيه ينصرف السّارد عن سرد القصّة الرّئيسيّة المتعلّقة بابن القارح إلى سرد قصّة شخصيّة فرعيّة، وتكون هذه القصّة عرضيّة، ويمكن حذفها دون أنْ تختلّ بنية الرّسالة(أذكر أمثلة..).

2 ـ الاستطراد اللّغويّ: لعلّه يكون من أهمّ أنواع الاستطراد في الرّسالة إلى جانب الاستطراد السّرديّ، وترى فيه السّارد يفسّر الألفاظ المستعصية، ويُكثر من الشّروح اللّغويّة، ويٌُقدّم للكلمة مختلف المرادفات حسب اختلاف اللّهجات.

3 ـ الاستطراد الشّعريّ: يتجلّى من خلال الإكثار من الاستشهاد بالشّعر ممّا يحوّل الرّسالة من النّثر إلى الشّعر...

4 ـ الاستطراد النّقديّ: يتجلّى حين يتحوّل الخطاب من السّرد إلى الحوار، ومن القصّ إلى النّقد، وتُطرح القضايا الأدبيّة مثل الاختلاف في بعض المسائل الشّعريّة، والقضايا اللّغويّة، والعروضيّة والبلاغيّة.

5 ـ الاستطراد الدّينيّ: نلمحه حين ينصرف السّارد إلى تناول بعض المسائل الدّينيّة، أو حين يستشهد بالآيات القرآنيّة ثمّ يُفسّر بعض الكلمات والمعاني.

II ـ وظائف الاستطراد في "رسالة الغفران":

تتعدّد وظائف الاستطراد في "رسالة الغفران"، مثلما تتعدّد وظائف أيّ نوع من أنواع الخطاب اللّغويّ، وذلك للعلاقة التي يُنشئها الخطاب بين المرسِل والمرسَل إليه والرّسالة، ويمكن تبعًا لذلك أنْ نتبيّن الوظائف التّالية:

1 ـ بالنّسبة إلى المرسِل: وهو كاتب "رسالة الغفران" ومنشئ الخطاب، والغايات التي يُحقّقها له الاستطراد عديدة، ومنها: إبراز براعته في إنشاء عالم قصصيّ متخيَّل، واستعراض محفوظه من الشّعر والقرآن، والقدرة على المساهمة بآرائه في القضايا الثّقافيّة والدّينيّة والاجتماعيّة، وتقزيم معارف ابن القارح، والسّخرية منه، وجعله في منزلة الجاهل المحتاج إلى التّعلّم منه، وتحقيق التّرفيه والاستمتاع والضّحك وإخراج نفسه من الجوّ القاتم لتلك العزلة التي فرضها على نفسه.

2 ـ بالنّسبة إلى المرسَل إليه: التّلاعب به بطلاً (القصّ) والسّخرية منه برسم في مشاهد مهينة، وتحطيم أعصابه قارئًا (التّرسّل)، وتحقير معارفه، وتلقينه المعارف التي يجهلها ويدّعي امتلاكها، وإطماعه بالقدرة على الدّخول إلى الجنّة أحيانًا، وتخويفه من المصير، وتعسيره أحيانًا أخرى، وتزييف توبته، وإبطال إيمانه، وتحقيره وتهميشه، وفضح شهوانيّته.

3 ـ بالنّسبة إلى المسرود له (القارئ عامة): إمتاعه بنصّ قصصيّ طريف، وتنبيهه إلى حقيقة شخصيّة ابن القارح، وإقناعه بقدرات الكاتب المعرفيّة، وموسوعيّة ثقافته، والمساهمة في تكوينه، وإضحاكه، وتنبيهه إلى قضايا عصره.

4 ـ بالنّسبة إلى الرّسالة: المساهمة في جعلها رسالة طريفة جامعة بين الهزل والجدّ، والإمتاع والإفادة

3 إجابة

0 تصويتات
بواسطة
موضوع مقال يتعلق بقسم الرحلة من رسالة الغفران

الموضوع :  يثير قسم الرحلة من رسالة الغفران في القارئ الحيرة في بناء النص و معانيه و مقاصد مؤلفه
 حلل هذا القول و أبد رأيك فيه معتمدا شواهد من قسم الرحلة.

|) المقدمة: إن قسم الرحلة من رسالة الغفران نص من أقوى النصوص في تراثنا الأدبي . فهو يستعصي على التصنيف ضمن جنس محدد من أجناس الكتابة الأدبية ، و هو نص متعدد الوجوه ، ما قرأه قارئ إلا حيره في بنائه و معانيه و مقاصد مؤلفه . فما هو منشأ هذه الحيرة ؟ و ما مدى انطباق هذا القول على نص الرحلة ؟

 الجوهر :

1- التحليل : يتوزع منشأ حيرة القارئ على المستويات التالية:

أ‌- حيرة في مستوى بناء النص :

- بنية النص السردية ( ترابط الأحداث ) : إذ تبدو هذه البنية غير خاضعة لنظام معيّن ، فالأحداث غير مرتبة ترتيبا منطقيا ، إذ تتتابع تتابعا غير سببي ، وفق خواطر البطل و رغباته المختلفة ، فمقاطع الرحلة غالبا ما تبدأ بعبارة تعبر عن الرغبة كقوله : << يخطر له حديث شيء كان يسمى النزهة في الدار الفانية ... >> ، أو قوله :<< و يبدو له أن يطلع إلى أهل النار ... >> أو قوله : << و يبدو له أن يصنع مأدبة في الجنان ...>> . فليس بين المقطع و الذي يليه رابط يبرر تتابعهما على النحو الذي جاءا عليه.
بيد أن الأحداث تبدو أحيانا متتابعة وفق ترتيب معيّن مقصود : هدوء ( في الفردوس ) / اضطراب ( في المحشر ) / عودة إلى الهدوء ( رياض الجنة). - تداخل الأزمنة في العملية السردية لكثرة الاستباقات و الاسترجاعات ، فالبناء غير خطي : فالقصة تبدأ بحاضر البطل في الجنة ، ثم ترجع إلى ماضيه في المحشر ، ثم تعود إلى حاضره الفردوسي . و الأزمنة التي تقاس بها مدة الأحداث في القصة ذات مقاييس مختلفة ، فهي دنيوية حينا ( غبرت برهة نحو عشرة أيام من أيام الفانية ) ، مطلقة أحيانا ( لا يزال كذلك أبدا سرمدا ناعما في الوقت المتطاول ...). - تعدد الأمكنة و انبناؤها على منطق المفارقة : جنة نعيم / جحيم عذاب – الفردوس حيث النعيم المقيم(قصور الدر و أنهار الخمر و العسل ) / أقصى الجنة حيث الحرمان و شظف العيش (فإذا هو بيت في أقصى الجنة ، كأنه حفش أمة راعية ، و فيه رجل ليس عليه نور سكان الجنة ...). – تصوير الشخصيات على نحو غير مألوف بالجمع بين شخصيات تنتمي إلى عصور مختلفة ( جاهلي / إسلامي ) فابن القارح الذي عاش في عصر المعري يلتقي بالأعشى و هو شاعر مخضرم ، و الجمع بين الآدمي و الحيواني في مكان واحد ( ابن القارح و أسد القاصرة وذئب الأسلمي في جنة الحيوان ) ، و الجمع بين الواقعي/ التاريخي و العجائبي ( ابن القارح يجتمع في روضة الحيات بالحية حافظة القرآن ). – تعدد وظائف الراوي و تداخلها : فهو يتولى سرد الأحداث متابعا حركات الشخصيات ، واصفا أحوالها ، و ناقلا أقوالها. و ينهض بوظائف غير سردية كالدعاء ، و الشروح اللغوية ، و الاستطرادات المتنوعة ( نحوية – عروضية – أدبية ...).

ب – حيرة في مستوى معاني النص : و منشؤها سمة التساؤل التي لونت تناول المؤلف للقضايا :

* الحيرة في القضايا العقائدية : - قضية البعث : على أية هيئة يبعث الإنسان ؟ طرح المعري في هذا السياق فكرة التعويض ، فالأعشى يبعث أحور ( مثل الأعشى ) ، و الأسود يبعث أبيض ( مثل توفيق السوداء ) ، و الشيخ يبعث شابا كالزهرة الجنية ( مثل زهير بن أبي سلمى ). – قضية المغفرة : بم تغفر الذنوب ؟ أبالعمل الصالح ، أم بالكلم الطيب ( مثل ابن القارح الذي غفر له بالصلاة على النبي في آخر كل كتاب كتبه ، و الأعشى الذي نال المغفرة بمدحه للرسول رغم أنه لم يسلم بسبب حبه للخمر ) ؟ - قضية الشفاعة : +) كيف نوفق بين العدالة الإلهية و الشفاعة المحمدية ؟ يقول الأعشى : << سحبتني الزبانية إلى سقر فرأيت رجلا في عرصات القيامة ... و الناس يهتفون به من كل أوب : يا محمد ، يا محمد الشفاعةَ الشفاعةَ ! ... فشُفع لي فأدخلت الجنَّةَ >> . +) هل يجوز الاحتجاج على بعض الأحكام كما فعل النابغة الجعدي الذي قال للأعشى :<< و لو جاز الغلط على رب العزة لقلت إنه غُلِط بك >>. – صورة الجنة : هل الجنة فضاء تتكدس فيه أصناف النعيم المادي لا وظيفة فيه لله سوى تلبية مطالب المخلدين في النعيم ؟ يبدو أن المعري لا يقول بهذا التصور للجنة ، و ما مبالغته المفرطة في وصف نعيم الجنة إلا تهكم و سخرية ( أنهار الخمر ، كؤوس العسجد ، أباريق الزبرجد ، أصناف الأطعمة ...).
*) الحيرة في القضايا الأدبية و اللغوية : - هل نص الرحلة نص قصصي أم مصنف في النقد الأدبي و اللغة ...؟ فكثرة ما عرض المعري من قضايا أدبية و لغوية متوخيا الإسهاب ، و معددا وجوه التأويل تحير القارئ في طبيعة هذا النص . – المعري لم يقدم موقفا واضحا من بعض القضايا الأدبية ، و اكتفى بعرض التراث مما يقع القارئ في حيرة إزاء المادة التي يعرضها المعري ( شعر الجن ، شعر آدم ، الانتحال ..,).

ج ) حيرة في مستوى مقاصد المؤلف :

و منطلقها تعدد الأبعاد و الغايات و انفتاح القراءات : - الحيرة في مقاصد الكتابة : * هل يقصد المعري استعراض مخزونه الأدبي و اللغوي تأكيدا لتميز ذاته و هو القائل : << و إني و إن كنت الأخير زمانه émoticône squint لآت بما لم تستطعه الأوائل >> ؟ * هل تحمل الرسالة مقصدا تعليميا ؟ يقول المعري في أحد الاستطرادات : << و هو (ابن القارح ) يعرف الأقوال في هذا البيت ( بيت من قصيدة الأعشى في مدح الرسول )و إنما أذكرها لأنه يجوز أن يقرأ هذا الهذيان ناشئ ( شاب ) لم يبلغه >> . فالمعري مهتم بتعليم الناشئة. * هل كتب المعري نص الرحلة للتعبير عن موقف خاص من ابن القارح ؟ (نقد علمه ، و أخلاقه ، و عقيدته ...) - الحيرة في مقصد الإضحاك : * هل هو وسيلة لطرد الملل عن القارئ وهو يكابد مشقة الاطلاع على مادة علمية جافة غزيرة ؟ * هل هو أداة نقد و إصلاح ؟ * هل هو استجابة لحاجة المعري إلى الضحك لأنه يعيش سجين المحبسين ؟
- الحيرة في مقصد الخيال : * هل هو وسيلة لتجويد البناء ( طرافة الإطارين المكاني و الزماني ، و الشخصيات ، و الأحداث ...) ؟ * هل هو وسيلة هروب من الواقع الذي يعيش فيه المعري ( حرمان ، و شظف عيش ، و عزوبة طال أمدها ) ، و ذلك ببناء واقع جديد زاخر بالمتع الحسية ، و اللقاءات الأدبية ، و النزه ، و الحركة الدائبة ...؟ * هل هو وسيلة لخلق سياقات مناسبة لاستدعاء التراث و طرح قضايا مختلفة ( عقد مجالس أدبية تجمع أدباء من جميع العصور...) ؟

2) التقويم :

إن نص الرحلة في رسالة الغفران نص يثير في المتلقي عدة تساؤلات محيرة تتعلق بمضامينه و بنائه الفني ، لكن الحيرة التي يثيرها متفاوتة من قارئ إلى آخر حسب الزاوية التي ينظر منها إلى النص ( علم نفس ، نقد أدبي ...) ، و بعض القضايا المطروحة فيه لا تثير الحيرة لأن موقف المعري منها واضح و دقيق و حاسم كموقفه من التكسب بالشعر فهو يدين الشعراء المداحين إدانة صريحة على لسان إبليس :<< بئس الصناعة ، إنها تهب غفة من العيش لا يتسع بها العيال ...>> وموقفه من مقاييس الجودة الأدبية و قد أبداه على لساني النابغة الجعدي و الأعشى ، و موقفه من جور الساسة الذي جاء على لسان تميم بن أبي:<< و الشوس الجبابرة من الملوك تجذبهم الزبانية إلى الجحيم ...>> .

3) التأليف :

و الحيرة التي يثيرها نص الرحلة دليل على تميز هذا الأثر و ثراء مضامينه الأدبية و الفكرية ، و طرافة بنائه الفني ، و على أنه " حمّال أوجه " ، منفتح على تأويلات متنوعة ، و هي لا تلغي المتعة بل تشد القارئ و تحثه على مواصلة القراءة لاكتشاف ما تعدُ به من وجوه الإمتاع الفكري والفني .

الخاتمة :

و يبقى قسم الرحلة من رسالة الغفران نصا خالدا ، قابلا أن تطبق عليه مناهج القراءة النقدية المعاصرة ، وهو لا يقل أهمية عن كثير من النصوص ذات البعد العالمي و الإنساني . فما مدى أهميته في التعبير عن فلسفة أبي العلاء و موقفه من الإنسان و الوجود.
0 تصويتات
بواسطة
رسالة‮ ‬الغفران‮: حكاية‮ ‬المتعة‮ ‬والنقد  
 
لم يخرج أبو العلاء في »فريدته« رسالة الغفران عن مفهوم الأدب عند العرب القدامى، إذ يجمع عندهم بين الإمتاع والمؤانسة. فالأدب لابدّ أن يلبّي حاجات المتقبّل الجماليّة من جهة حسن الصياغة والالذاذ، وأن يحقّه في ذات اللّحظة على الفضائل من جهة المعاني أي جودة الافهام‮. ‬وشكل‮ ‬نصّ‮ ‬أبي‮ ‬العلاء‮ ‬الفريد‮ ‬لحظة‮ ‬ألق‮ ‬في‮ ‬تاريخ‮ ‬السرد‮ ‬العربي‮ ‬وعلامة‮ ‬على‮ ‬اتساع‮ »‬العقل‮ ‬الحضاري‮« ‬وتسامحه‮. ‬وتكفي‮ ‬نظرة‮ ‬سريعة‮ ‬على‮ ‬تاريخ‮ ‬استقبال‮ ‬هذا‮ ‬الأثر‮ ‬دليلا‮ ‬على‮ ‬ذلك‮.

نروم في هذه الخطاطة الوقوف عند ثلاثة محاور كبرى، أوّلها المصادر التي عليها اتّكأ أبو العلاء في كتابة الرسالة، وثانيها، الجوانب القصصيّة أو مظاهر الامتاع الفنّي، وثالثها أهم القضايا التي عالجها.
رسالة الغفران في البدء »لفظ« مُركّب، إن فكّكناه ينفتح بنا على عالمين متفارقين. فلفظ »رسالة« يدرجها ضمن فنّ في الكتابة كان شائعا على عصر أبي العلاء له شروط بناء، ولوازم أسلوبيّة، يوغلُ فيه أصحابه في فنون البديع والنّظم، ويغْلُبُ عليه التكلّف البلاغي ونمطيّة الكتابة، ولفظ »غفران« ينفتح على معجم دينيّ، إذ الغفران في الحضارة الاسلاميّة متعلّق بكلّ مؤمن ونهاية الأرب ومغزى الوجود. غير أنّ اندراجهما في »مركّب اضافي« واحدٍ يثير منذ البدء علاقة ما كتبه المعرّي بالقرآن. فالقرآن هو في الأصل سبيل الغفران وطوق النجاة لمن‮ ‬استمسك‮ ‬به‮ ‬وعمل‮ ‬بوصاياه‮.‬
ولا نعتقد أنّ أبا العلاء غاب عن ذهنه وهو يملي رسالته ذلك. بل انّ الرسالة تشكّلت متقاطعة مع النص القرآني، ومع غيره من النصوص الأخرى، كالشعر والأخبار، هذا اضافة إلى الشائع من القصص والأساطير والحكاوي.

1‮ ‬ـ‮ ‬في‮ ‬مصادر‮ ‬الرسالة

أ‮ ‬ـ‮ ‬النص‮ ‬الديني

حفل القرآن الذي قام خطابه على ثنائيّة التّرغيب والتّرهيب، أي الإغراء بالجنّة ولذائذها والتحذير من النار وسعيرها، بالكثير من الآيات التي تصف عالم اللّه، كالبعث والموقف والحساب والنعم التي وعد المتقون، والعذاب الذي ينتظر المنكرون. وكغيره من النصوص المؤسّسة، نشأ‮ ‬القرآن‮ ‬متكتّما‮ ‬على‮ ‬التفاصيل،‮ ‬وهو‮ ‬ما‮ ‬سمح‮ ‬لأبي‮ ‬العلاء‮ ‬بالتصرّف‮ ‬في‮ ‬ذلك‮ ‬بطرائق‮ ‬مختلفة‮.‬
إنّ التسمية »رسالة الغفران« تصل منذ العنوان مؤلف أبي العلاء بالقرآن. ويزداد الإلتصاق في تصوير المكان. إذ هو جنّة وجحيم، وقد أثّث أبو العلاء مكانه بتوسيع الآي القرآني، فالجنّة مكان شاسع لا حدود له، أشجاره »بين المشرق والمغرب« و»تجري في أصول ذلك الشّجر، أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثرُ يمدّها من كلّ أوان، من شرب منها النّغبة فلا موت.. وسُعُد من اللبن متخرّقات لا تُغيّر بأن تطول الأوقات. وجعافر من الرّحيق المختوم... تلك الراح الدائمة« (1). وليس هذا الوصف الطريف الاّ اعادة صياغة فنيّة لآية قرآنيّة تقول: »ومثل‮ ‬الجنّة‮ ‬التي‮ ‬وُعد‮ ‬المتقون‮ ‬فيها،‮ ‬انهار‮ ‬من‮ ‬ماء‮ ‬غير‮ ‬آسن،‮ ‬وأنهار‮ ‬من‮ ‬لبن‮ ‬لم‮ ‬يتغيّر‮ ‬طعْمُهُ،‮ ‬وأنهار‮ ‬من‮ ‬خمر‮ ‬لذّة‮ ‬للشاربين،‮ ‬ولهم‮ ‬فيها‮ ‬من‮ ‬كل‮ ‬الطّيبات‮«.‬
ويندسّ القرآن لفْظًا وعالما متصوّرا في النص العلائي، فإذا الشخوص ملائكة »رضوان وزفر وزبانيّة« وإذا الجنان نورانيّة الطابع »حور ولذائذ« وإذا الجحيم ظلام »نار وسعير«، بل انّ الرسالة كلّها قامت على لعبة فنيّة طريفة رافعتها آيتان قرآنيتان، أعمل فيهما المعرّي خياله‮ ‬لينقلنا‮ ‬من‮ ‬عالم‮ ‬الأرض‮ ‬إلى‮ ‬عالم‮ ‬السّماء‮.‬
إنّ آية »إليه يصعد الكلام الطيّب« وآية »ألم تر كيف ضرب اللّه مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة، أصلها ثابت وفرعها في السّماء«، كانتا المبرّر الفعلي لعمليّة العروج هذه. إذ أنّ الانتقال من الحديث عن رسالة ابن القارح أي »المشبّه« عبر ادراجها ضمن عالم »الكلام الطيّب«‮ ‬الذي‮ ‬يصّاعد‮ ‬الى‮ ‬اللّه‮ ‬والذي‮ ‬هو‮ ‬عنده‮ ‬كالشجر،‮ ‬إلى‮ ‬الحديث‮ ‬عن‮ »‬المشبه‮ ‬به‮« ‬أي‮ ‬ثمار‮ ‬ذلك‮ ‬الكلام‮ ‬هو‮ ‬الذي‮ ‬وضعنا‮ ‬في‮ ‬رحاب‮ ‬ملكُوت‮ ‬الرّب،‮ ‬وإذا‮ ‬المغامرة‮ ‬تنطلق‮.‬
إلاّ‮ ‬أنّ‮ ‬النص‮ ‬القرآني‮ ‬لم‮ ‬يحضر‮ ‬ليتسبّد‮ ‬بالكتابة‮ ‬اذ‮ ‬أنّ‮ ‬جنة‮ ‬الرسالة‮ ‬ليست‮ ‬هي‮ ‬الجنّة‮ ‬الدّينية،‮ ‬فالقرآن‮ ‬لم‮ ‬يكن‮ ‬في‮ ‬الأصل‮ ‬غير‮ ‬رافدٍ‮ ‬من‮ ‬جملة‮ ‬روافد‮ ‬أخرى.

‮ ‬ب -»‬الشعر‮«.‬

رسالة الغفران شبيهة إلى حدّ كبير بمجلس أدب من التي شاعت في عصور الاسلام المختلفة. فشخوص الرّسالة أغلبهم شعراء وأدباء، وجرت بينهم خصومات أدبيّة حول معاني الألفاظ، كالتي دارت بين الأعشى والنابغة بخصوص لفظ »الرباب«، أو حول التصرّف واللحن في رواية الشعر، كتعرّض‮ ‬مجموعة‮ ‬منهم‮ ‬لأبي‮ ‬علي‮ ‬الفارسي‮... ‬هذا‮ ‬اضافة‮ ‬الى‮ ‬تعريج‮ ‬أبي‮ ‬العلاء‮ ‬في‮ ‬الكثير‮ ‬من‮ ‬المواضع‮ ‬إلى‮ ‬مسائل‮ ‬عروضيّة‮ ‬ولغويّة‮ ‬عديدة‮... ‬كما‮ ‬أنّ‮ ‬الشعر‮ ‬يحضر‮ ‬بكثافة‮ ‬من‮ ‬جهة‮ ‬الأبيات‮ ‬وشروحها‮.‬
غير‮ ‬أنّ‮ ‬الشعر‮ ‬أكثر‮ ‬من‮ ‬كلّ‮ ‬ذلك،‮ ‬كان‮ ‬مصدرا‮ ‬مكوّنا‮ ‬لعالم‮ ‬الرسالة‮. ‬فقد‮ ‬كان‮ ‬في‮ ‬الكثير‮ ‬من‮ ‬الأحيان‮ ‬المادّة‮ ‬الرئيس‮ ‬في‮ ‬صياغة‮ ‬القصّ‮. ‬أي‮ ‬أنّ‮ ‬أبا‮ ‬العلاء‮ ‬كان‮ ‬يعيد‮ ‬كتابة‮ ‬الشعر‮ ‬نثرًا‮.‬
إنّ مشهد خروج ابن القارح في نزهة، وتصوير المكان ولوازم الرّحلة »ثمّ أنّه أدام اللّه تمكينه، يخطر له حديث شيء كان يسمّى النزهة في الدار الفانية، فيركب نجيبا من نجب الجنّة... ومعه اناء،، ومعه شيء من طعام الخلود... لم يكن في الحقيقة إلاّ اعادة كتابة لمقول الأعشى‮ ‬الوارد‮ ‬بعده‮ ‬مباشرة‮.‬
ليت‮ ‬شعري‮ ‬متى‮ ‬تخُبّ‮ ‬بنا‮ ‬النّاقة‮ ‬نحو‮ ‬العذيب‮ ‬فالصيبون
مُحقبًا‮ ‬زُكرة‮ ‬وخبز‮ ‬رقاق‮ ‬وحباقا‮ ‬وقطعة‮ ‬من‮ ‬نون
وكذا الأمر في مشهد اللّذة الذي عاشه البطل مع الحورّيتين، حيث تداخلت الكتابة السرديّة بشعر أمرئ القيس، الذي لم يكن مجرّد حلية للكلام أو مُتمّمًا للذة بقدر ما كان في الأصل جوهر الكتابة السرديّة ومصدرها (3).
إنّ‮ ‬المعرّي‮ ‬تبعا‮ ‬لما‮ ‬تقدّم‮ ‬استدعى‮ ‬النص‮ ‬القرآني‮ ‬والمتن‮ ‬الشعري،‮ ‬وأنشأ‮ ‬معهما‮ ‬حوارًا‮ ‬وصهرها‮ ‬في‮ ‬كتابة‮ ‬بديعة‮ ‬تقاطعت‮ ‬فيها‮ ‬النصوص‮ ‬فأثرتها‮.‬
لقد أفردنا النص القرآني والمتن الشعري بعناية، على أنّ مصادر أخرى عديدة ونصوص مختلفة كانت حاضرة في ذهن أبي العلاء وهو يصوغ رسالته، كالأخبار، مثل قصّة الأعشى وعدوله عن الإيمان والخطيئة، والخرافات والأساطير التي كانت شائعة، مثل نسبة الأشعار إلى آدام، أو لغة أهل‮ ‬الجنّة‮ ‬أو‮ ‬شعر‮ ‬الجان‮...‬

2‮ ‬ـ‮ ‬في‮ ‬الابداع‮ ‬القصصي

أ‮ ‬ـ‮ ‬البناء‮ ‬الفنّي

تنهض كلّ حكاية قصصيّة على بناء فنّي محكم سُمّي جوازًا بالبناء الثلاثي، هدوء فاضطراب فعودة إلى الهدوء، ولم يشذّ المعرّي في رسالته على هذا البناء، اذ أنّ قسم الرحلة قام على خمس حركات كبرى هي المعراج، فالنزهة فالحشر فالجحيم فالجنّة، وإذا كان المقطعان الأولان والأخيران قد تميّزا بالهدوء، فإنّ موقف الحشر الذي توسّط هذه الحركات اتّسم بالإضطراب، وهو ما جعلها على قدر كبير من الطرافة والتشويق. إذ أنّ موقف الحشر اتّسم بكثرة الشخوص وكثافة الحركة القصصيّة التي قامت فيه على ثنائيّة الأمل / الخيبة فكثرت »مساعدات« البطل كما كثرت »المعرقلات«. زد على ذلك، فإنّ توسّط الحشر للبنية الحدثيّة للقصّ يبدو خرقًا للإنتظام الوقائعي الزمني، إذ أنّه ورد في غير محلّه من انتظام الأحداث في الواقع، الأمر الذي يحفّز المتقبّل على الاستزادة من القراءة علّه يظفر بعلّة الغفران للبطل.
فالمعرّي تبعا لذلك، ترك لنفسه حريّة التصرّف في الأحداث تقديما وتأخيرًا دون اهتمام بنسقها الزمني الدنيوي. وهذا التصرّف ارتبط عند المعرّي بالمكان وخصائصه وبشخصيّة البطل والغاية منها. فالمكان أي »عالم الآخرة محمول في الأذهان بالغموض والاتساع »لا يعلم كنهه الاّ اللّه«. أي أنّه فضاء مجهول يستحق عناء الإرتجال لكشفه، والبطل الذي عرف في الدنيا بأنّه شخص ذو أهواء، ترك في الجنّة يخبط خبط عشواء، فإذا هو »يسير على غير منهج«، وهو ما سيسمح لأبي العلاء بِطرْق قضايا مختلفة في حركة تامّة، والانتقال بينها بلا تعقيدات تذكر.
فخلافًا لما يبدو، من ظاهر الرسالة من فوضى، إذ أنّها تبدو للقراءة المتعجّلة، على غير ترتيب منطقي لأحداثها، القائمة في الغالب على المصادفة والفجئية وهو ما يظهر في كثرة استعمال أسلوب الفجائيّة: إذ.. فـ، علاوة على كثرة الشخوص المنتمية إلى أزمان مختلفة، وكثرة الاستطرادات‮ ‬والشروح‮ ‬التي‮ ‬تثقل‮ ‬السّرد‮ ‬وتعطّل‮ ‬تطوّر‮ ‬أحداثه،‮ ‬فضْلاً‮ ‬على‮ ‬تنوّع‮ ‬القضايا،‮ ‬فإنّها‮ ‬ـ‮ ‬أي‮ ‬الرسالة‮ ‬ـ‮ ‬ذات‮ ‬هندسة‮ ‬بنائيّة‮ ‬محكمة‮ ‬ونظام‮ ‬صارم‮ ‬دقيق‮.‬

ب‮ ‬ـ‮ ‬أركان‮ ‬القصّ

المكـــان*

لقد تدرّج أبو العلاء في كشف المكان تبعًا لحركة البطل ومستلزمات تطوّر الحكي. فليس المكان مجرّد إطار للأحداث، بقدر ما كان وسيلة فنيّة تعبّر عن مشاغل أبي العلاء. لقد هندس أبو العلاء الفضاء بطريقة تقوم على التقابل والتناظر والتماثل. التقابل بين القصور المذهّبة‮ ‬المشيّدة‮ ‬المشعّة‮ ‬نورًا‮ ‬كما‮ ‬هو‮ ‬الحال‮ ‬عند‮ ‬زهير،‮ ‬والكوخ‮ ‬القميء‮ ‬كما‮ ‬هو‮ ‬الحال‮ ‬عند‮ ‬الحطيئة،‮ ‬لتثار‮ ‬من‮ ‬خلال‮ ‬ذلك‮ ‬مسألة‮ ‬الحظوظ‮ ‬المتفاوتة‮ ‬في‮ ‬الدنيا‮.‬
والتناظر‮ ‬بين‮ ‬عالم‮ ‬الجنّة‮ ‬ذي‮ ‬النعم‮ ‬والنورانيّة‮ ‬وعالم‮ ‬الجحيم‮ ‬وما‮ ‬فيه‮ ‬من‮ ‬أودية‮ ‬وظلمات‮. ‬فالمعرّي‮ ‬وظّف‮ ‬الأمكنة‮ ‬لتوليد‮ ‬الأحداث‮ ‬وشحنها‮ ‬بطاقة‮ ‬رمزيّة‮ ‬سمحت‮ ‬له‮ ‬بنقد‮ ‬عدّة‮ ‬مظاهر‮ ‬اجتماعيّة‮.‬

الزمــان*

غلب عليه في الرسالة الطّابع التعميمي الإطلاقي، فوردت صيغ الأفعال في المضارع مشدودة إلى التراكيب التلازميّة، وهو ما يتناسب مع عالم الآخرة السّرمدي. كما حاول أبو العلاء تفرقته على الزّمن الدنيوي، فجعل البرهة ستة أشهر من زمن الدار الفانية، واللحظة حينا من الدهر واليوم طوله خمسون ألف سنة. وعمل أيضا على التّوفيق بين »الزّمن الخارجي« القائم على الذاكرة لإسترجاع حياة كلّ شخصيّة، وبين »الزّمن الداخلي« الذي تجري فيه أحداث الرّحلة، مثل الحوار الذي دار حول »الرباب« والخصومة التي قامت بسببه.

الشخصيــات*

لقد‮ ‬تعدّدت‮ ‬الشخوص‮ ‬وتنوّعت،‮ ‬فإذا‮ ‬هي‮ ‬انسانيّة‮ ‬كابن‮ ‬القارح‮ ‬والأعشى‮... ‬وحيوانيّة‮ ‬كالحيّة‮ ‬والإوز‮ ‬والطاووس‮ ‬وملائكيّة‮ ‬كرضوان‮ ‬وزفر‮ ‬والزبانية‮... ‬بل‮ ‬إنّها‮ ‬مشدودة‮ ‬إلى‮ ‬الواقعي‮ ‬والأسطوري‮ ‬كإبليس‮ ‬والجان‮...‬
وأحكم‮ ‬أبو‮ ‬العلاء‮ ‬الرّبط‮ ‬بين‮ ‬هذه‮ ‬الشخصيات‮ ‬ذات‮ ‬الأصول‮ ‬والمرجعيّات‮ ‬بل‮ ‬العصور‮ ‬المختلفة‮ ‬فأنشأ‮ ‬بينها‮ ‬علائق‮ ‬سمحت‮ ‬له‮ ‬بإثارة‮ ‬قضايا‮ ‬مختلفة‮.‬

الــراوي*

أحكم أبو العلاء لعبة الرواية وأدار الحكي بسلاسة طريفة أقامها على »الظّهور والتخفّي«، فاسحًا المجال للشخصيات للتحرّك والتحاور بحريّة، عمّقت متعة القص وتشويقه، كما تكفّل الرّاوي بوظيفة التعليق شرحًا ودعاء، مثيرًا السّخريّة من البطل، عبر »المفارقة« بين مواضيع‮ ‬الأدعية‮ ‬ومقاماتها‮ »‬يخلو‮ ‬ـ‮ ‬لا‮ ‬أخلاه‮ ‬الله‮ ‬من‮ ‬الاحسان‮ ‬ـ‮ ‬بحوريتين‮« ‬أو‮ »‬يخطر‮ ‬له‮ ‬ـ‮ ‬جعل‮ ‬اللّه‮ ‬الاحسان‮ ‬إليه‮ ‬مربوبًا‮«.‬
ومثّلت‮ ‬الشروح‮ ‬اللّغويّة‮ ‬والاستطرارات‮ ‬وسيلة‮ ‬تعليميّة،‮ ‬عرض‮ ‬فيها‮ ‬أبو‮ ‬العلاء‮ ‬معارفه‮ ‬ومهاراته‮ ‬الأدبيّة‮ ‬وسعة‮ ‬حافظته‮.‬

الوصــف*

لقد كان الوصف في الرسالة بديعًا حقّا، فكان التناسب بين الفضاء القصصي للأحداث والوقائع بائنًا، فورد الوصف مندرجًا ضمن سياق السّرد، فيسنُده ويجوّد عباراته، لما اشتمل عليه من ضروب التشابيه والاستعارات والمحسنات »جناسًا« و»طباقًا« و»سجْعًا«.
فقد كثرت في رسم ملامح الشخصيات التشابيه، التي نمّت التباين بين عالمي الجنّة والجحيم، »فيبتدئ بزهير، فيجده كالزهرة الجنيّة وقد وهب له قصر من ونيّة، كأنّه ما لبس جلباب هرم« أمّا صخر وهو في العذاب »فأطّلعت فرأته كالجبل الشّامخ والنار تضطرم في رأسه« هذا فضلا عن‮ ‬البراعة‮ ‬في‮ ‬تجسيم‮ ‬ما‮ ‬كان‮ ‬متصوّرا‮ ‬مُجْملاً‮ ‬غير‮ ‬دقيق‮ ‬في‮ ‬النص‮ ‬القرآني‮ ‬أو‮ ‬في‮ ‬أذهان‮ ‬المسلمين‮ ‬كتصوير‮ »‬حور‮ ‬العين‮«‬،‮ ‬والتدقيق‮ ‬في‮ ‬وصف‮ ‬أنهار‮ ‬اللبن‮ ‬والخمر‮ ‬وعالم‮ ‬النعم‮ ‬والملذّات‮.‬
الحــوار*
دقّق أبو العلاء في الحوار وأحكم توظيفه، فقد تحاورت الشخوص في لغة فصيحة بلا عوائق رغم تباعدها في المنشأ والعصر. وتنوّعت مواضيع الحوار وتنامت بشكل أفضى إلى التكامل حينا كما هو شأن ابن القارح والأعشى وإلى التصادم حينًا آخر كما هو الأمر بين الأعشى والنابغة، وهو‮ ‬الأمر‮ ‬الذي‮ ‬سمح‮ ‬لأبي‮ ‬العلاء‮ ‬بإثارة‮ ‬مسائل‮ ‬مختلفة‮.‬
إنّ براعة القصّ كانت مصدرًا أساسا للمتعة في قسم الرّحلة من رسالة الغفران وقد حرص المعرّي على تنويع وسائلها وإحكام الرّبط بينها. وتجلّت براعة القصّ في اخراج الحكاية، اخراجًا فنيّا مبتكرًا، في بناء قصصيّ متين ومشوّق، تضافرت فيه أنماط الخطاب قوامه الخيال المبتكر‮ ‬والنصوص‮ ‬التي‮ ‬تعالقت‮ ‬مع‮ ‬بعضها‮ ‬البعض‮ ‬لتنصهر‮ ‬في‮ ‬نصّ‮ ‬واحدٍ‮ ‬مُمْتع‮ ‬وفريد‮.‬

3‮ ‬ـ‮ ‬فـي‮ ‬القضــايا

لا أعتقد أنّ هذا الباب يستحقّ الإطالة في هذا المقال على اعتبار أنّ أغلب المشتغلين على الرسالة باحثين ودارسين ومدرسين يجمعون على جرأة أبي العلاء في طَرْقِ مسائل يبدو بعضها اليوم من المحرّمات، كمسائل البعث والحشر والحساب، وطبيعة حياة الناس في الجنّة، أو بعد التشفّي في عقاب غير المؤمنين. على أنّه ولمساعدة التلاميذ منهجيّا، يُوصَى بتبويب القضايا في ثلاث أبواب كبرى، أوّلها المسائل الأدبيّة، كمفهوم الشعر ووظائفه وروايته وطبقات الشعراء ومقاييس الابداع فضلاَ على مسائل لغويّة وعروضيّة مختلفة. وثانيها القضايا الاجتماعيّة،‮ ‬كالاستبداد‮ ‬السّياسي‮ ‬والتفاوت‮ ‬الاجتماعي،‮ ‬والمسائل‮ ‬القيميّة،‮ ‬من‮ ‬طمع‮ ‬وتطفل‮ ‬وتكالب‮ ‬على‮ ‬الملذات‮ ‬ونفاق‮.. ‬وثالثهما‮ ‬القضايا‮ ‬العقديّة،‮ ‬ كالحشر و الشفاعة و العدل الالاهي و التعويض.
0 تصويتات
بواسطة
الاستطراد في رسالة الغفران

اسئلة متعلقة

...