جنة الغفران : قراءة في رسالة الغفران
تلخيص رسالة الغفران
إنّ البنية التركيبية لجنة أبي العلاء إنما تتبين من خلال هذه الصورة: وهي جنة اللغويين، جنةالشعراء، جنة المغنين، جنة الرّجز، جنة العفاريت، جنة الحيوانات و الجنة المشرفة علي النار . وجعل في جنة الشعراء ستة من الجاهليين منهم الأعشي و زهير بن أبي سلمى و ثلاثة من المخضرمين منهم حسان بن ثابت و ستة من الإسلاميين منهم الشماخ بن ضرار، و في جنةاللغويين اربعة عشر من العباسيين كالخليل بن أحمد، سيبويه، ابن درستويه، أبو علي الفارسي و
الأصمعي، و في جنة المغنين عشرة من العباسيين منهم ابن مسحج و ابراهيم الموصلي، و في جنة الرجز سبعة من الأمويين منهم: رؤبة بن العجاج و في الجنة المشرفة علي النار اثنين منالمخضرمين هما الحطيئة و الخنساء. وهكذا يتدرج بنا من جنة الي جنة أخري ليقدم لنا ملامحهاالمكانية و أحوال الذين يقيمون فيها إلاّ أنه قبل كل شئ يعطينا صورة من السمات الكلية للجنة من خلال جنة يتمني أن يحظي بها ابن القارح.
2- الجنة التي يتخيلها المعري لابن القارح :
إن المعري يبدأ وصفه لدار الآخرة بتسليط الضوء علي الجنة التي يتخيلها لابن القارح وهو يصور هذه الجنة أولاً من خلال أشجار واسعة الظلال لذيذة الفواكه يتمني أن تغرس له في دار الآخرة:
فقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل ان شاء الله بذلك الثناء شجرٌ في الجنة لذيذ اجتناء، كل شجرة منه تأخذ ما بين المشرق و المغرب بظل غاط [واسع مبسوط]، ليست في الأعين كذات أنواط.(140 : [جمع نوط: كل ما علق من شئ] 1 (المعري، 1993
والسجع فيه مشهود في الثناء و اجتناء، غاط وأنواط، كما أنّ لذيذ اجتناء فيه مجاز، و قوله :
كل شجرة منه تأخذ ما بين المشرق و المغرب بظل غاط، كناية عن عظمة الأشجار مما تدل علي أن الجنة لها سعة لا يمكن تحديدها. ومن خلال قوله: ليست في الأع ين كذات أنواط يعطينا صورة تقابلية بين أشجار الجنة و أشجار الدنيا.
ثم ينتقل الي الغلمان الذين هم في حركة ونشاط مستمر تحت تلك الظلال ليخرج المكان من والولدان المخلدون في ظلال تلك الشجر قيام وقعود، وبالمغفرة نيلت السعود » : السكون والجمود يطُوف » : تضمين للآية « الولدان المخلدون ... قيام وقعود » 141 ). وفي الحقيقة : (المعري، 1993 الواقعة: 17 ). واللافت للنظر أنّ أبا العلاء عندما وصف الولدان المخلدين لم يقل « في ظلال تلك الشجر يقومون ويقعدون » بل وظّف مصدر الفعلين دلالة علي صورة المكان في رسالة الغفران
آفاق الحضارة الاسلامي، ة السنة الخامسة عشرة، العدد الثاني، الخريف و الشتاء 1434 ه .ق في « السعود » في نهاية الجملة الأولي و « قعود » كثرة إستعدادهم لتلبيه طلبات أهل الجنة، كما أنّ نهاية الجملة الثانية قد منحا وصف هذا المشهد المكاني سجعاً وإيقاعاً قوياً؛ حيث التزم أن تكون نهاية كل سجعه لا حرفاً أو حرفين بل ثلاثة حروف.
ثم ليزداد المشهد حركة وحيوية واتساعاً وتشعباً ينتقل المعري الي الأنهار التي تنبع من ماء الحياة و يضاف عليه من الكوثر كل لحظة، كما يصور سواقي واسعة من اللبن الذي لا يتغير طعمه
إثر مرور الزمن وسواقي صغيرة من الرحيق المختوم ليضفي علي المكان لوناً ورائحة طيبة:
وتجري في أصول ذلك الشجر، أنهار تختلج من ماء الحيوان، و الكوثر يمدها في كل أوان، من شرب منها النغبة فلا موت، قد أمن هنالك الفوت. و سعد من اللبن متخرقات، لا تغير بأن تطولالأوقات و جعافر من الرحيق المختوم عزّ المقتدر علي كل محتوم. تلك هي الراح الدائم ة لا .(142 : الذميمة و لا الذائمة (المعري، 1993.
وقد وظّف التسجيع في وصفه لهذه الأنهار فنري وشي السجع في الحيوان و أوان، موت وفوت، متخرقات والأوقات، الدائمة والذائمة، والجناس الناقص بين المختوم ومحتوم وبين تضمين « جعافر من الرحيق المختوم » الذميمة والذائمة وبين الدائمة والذائمة، كما أنّ في العبارة المطففين: 25 ). وهنا أيضاً نجد المعري في وصف هذه ) « يسقَونَ من رحيقٍ مخْتُومٍ » : للآيه الوحدة المكانية يكلًف نفسه ليأتي بسجع مزدوج يلتزم فيه بحرفين أو ثلاثة أحرف. واللافت للنظر أن المعري يبدأ وصف الفضاء المكاني للجنة بالشجر وهو يوحي من جهه بالخضار ومن جهة أخري بالعطاء سواء كان بالظلال أو الأثمار، وهنا نري أن الشجر يستدعي الظلال و الظلال تستدعي الولدان المخلدين القائمين و القاعدين وهي تكون مع بعض المعالم الأولي للنعيم الذي يتمتع به العبد الخير. ثم نري أنّ السارد ينتقل من ذكر الشجر وهو شئ مادي ملموس جامد الي ذكر أنواع السوائل ومنها الماء بل هي أنهار وسواقي من الماء وفي هذا صلة وثيقة بالحياة؛ إذ يدلّ الإخضرار والماء أنّ هناك نضارة و حركة و حيوية تقابل رموز الحياة في الدنيا إلّا أنّ لها سعة وامتداد لا يمكن استيعابه بالعقل البشري..