مقالة البيولوجيا
مقالة البيولوجيا. مقالات حول البيولوجيا بطريقة جدلية واستقصاء
مقالة البيولوجيا - علم دراسة المادة الحية -
هل يمكن دراسة الظاهرة البيولوجية دراسة علمية تجريبية على غرار المادة الجامدة؟
الطريقة: جدلية.
بين الاتجاهين الغائي (لا يمكن التجريب في البيولوجيا مع لاشوليي، كوفيي، بونوف..)
والاتجاه الآلي (يمكن التجريب في البيولوجيا مع كلود برنار، لويس باستور).
طرح المشكلة: يعتبر المنهج التجريبي من بين أبرز وأكثر المناهج شيوعا وانتشارا وتحقيقا للنتائج. خاصة بعد التقدم الكبير والنتائج الباهرة المحققة في علوم المادة الجامدة. الأمر الذي جعل العلماء يزنون به علمية أي علم من العلوم، أي قابلية موضوعاته للدراسة التجريبية، فإذا كان المنهج التجريبي لا يجد أية صعوبة في تطبيق خطواته الثلاث على المادة الجامدة، فلأن هذه المادة لا تشكل أي وحدة متعاضدة بحيث يمكن تفتيتها وتفكيكها الى أجزاء. ومعلوم أن هناك اختلاف بين الموضوع الذي تدرسه العلوم الطبيعية والمادة العضوية الحية التي تعالجها البيولوجيا. وهذا الاختلاف ترتب عنه اختلاف وجهات النظر بين الفلاسفة والعلماء الى استحالة أو إمكانية استخدام مقياس التجربة في البيولوجيا. فمنهم من يقول باستحالة تطبيق المنهج التجريبي على العضوية الحية، ومنهم من يرى إمكانية تطبيقه في البيولوجيا. من هنا ونظرا لهذا التناقض والتعارض الواضح بين الموقفين حق لنا أن نتساءل: هل يمكن استخدام مقياس التجربة في دراسة الظاهرة البيولوجية على غرار المادة الجامدة؟ وهل يمكن تجاوز الصعوبات التي يطرحها تطبيق التجربة على الكائن الحي؟ وبعبارة أخرى: هل يمكن أن تكون الظاهرة البيولوجية موضوعا للمعرفة والدراسة العلمية على غرار المادة الجامدة؟
الأطروحة 1: يرى عدد من المفكرين والفلاسفة والعلماء من أنصار الاتجاه الغائي أمثال: "لاشوليي"، "كوفيي" و "بونوف" أنه لا يمكن استخدام مقياس التجربة في البيولوجيا، وبالتالي لا تطمح البيولوجيا أن ترقى الى مصاف علوم المادة الجامدة. ويؤسس هؤلاء المعارضون لتطبيق المنهج التجريبي على الظواهر البيولوجية أطروحتهم على مسلمتين: أولا "الحياة والغاية منها"، حيث تعتبر الحياة حالة تميز جميع ما يدعى كائنات حية من حيوانات ونباتات وبشر وفطريات وحتى البكتيريا والجراثيم، مميزة إياها عن غير الأحياء من الأغراض اللاعضوية أو الكائنات الميتة. و"ثانيا" طبيعة موضوع البيولوجيا، فالظاهرة البيولوجية ظاهرة معقدة ومتشابكة العناصر، حيث أن كل جزء فيها تابع للكل. فتعقدها يظهر في تداخل وتفاعل وتكامل وترابط الأجزاء العضوية الحية ما يحول دون تطبيق خطوات المنهج التجريبي في البيولوجيا. فإذا كان بالإمكان تحليل الماء مثلا أو تفتيت قطعة طباشير (مادة جامدة) وتفكيكها إلى أجزاء لا متناهية دون أن تفقد هذه المادة طبيعتها، فإن الأمر ليس كذلك مع العضوية الحية، وفي هذا المعنى يقول "كوفيي": "إن سائر أجزاء الكائن الجسم الحي مرتبطة فيما بينها. فهي لا تستطيع الحركة إلا بقدر ما تتحرك كلها معا. والرغبة في فصل جزء من الكتلة معناها نقله إلى نظام الذوات الميتة ومعناها تبديل ماهيته تبديلا تاما". كما قد تعترض الدارسين للمادة العضوية الحية عوائق وصعوبات عديدة، من بينها صعوبة الملاحظة التي يجب أن تتم أثناء جريان الظاهرة في جسم الكائن الحي. وكثيرا ما يجب أن تتواصل الملاحظة مدة من الزمن لتتبع أطوار الظاهرة في مختلف مظاهرها. وتعظم الصعوبة في ميدان البيولوجيا المجهرية التي تهتم ببنية الخلية، وتركيبها الداخلي المسؤول عن انتقال الصفات من جيل لآخر، والتي يصعب ملاحظتها وضبطها. هناك أيضا عائق التجريب حيث نجد العالم يواجه صعوبة، ذلك أن أول ما يعترض البيولوجي هو مسألة التكرار، إذ من المعروف أن التجريب في العلوم الفيزيائية يقوم على مبدأ تكرار الظاهرة في المختبر وذلك بعزل عناصرها وتفكيكها، وهو ما يؤثر على بنية الجهاز العضوي ويدمر أهم عنصر فيه وهو الحياة.
كما يطرح التجريب صعوبة أخرى تتعلق بمصداقية النتائج التي ينتهي إليها الباحث البيولوجي، خاصة متى علمنا أن الكائن الحي دائم التغير في الوسط الذي يعيش فيه، ويكفي أن ننقله من محيطه الطبيعي العفوي إلى محيط تجريبي اصطناعي حتى تتغير طبيعته. وإذا امتد التجريب إلى الإنسان نشأت صعوبة من طبيعة أخلاقية، فالإنسان كائن له كرامته التي تفرض على البيولوجيا احترامه.
والدليل على ذلك أن الكثير من علماء الدين ورجالاته، وفلاسفة الأخلاق يحرمون ويمنعون أن يكون الإنسان عينة للتجريب. وما زال الاستنساخ البشري يثير سخط هؤلاء. وفي هذا الصدد يقول عبد المحسن صالح: "البحوث العلمية التي يقوم بها العلماء في زماننا هذا، قد تخطت سنن الطبيعة، وحادت بها عن طريقها المشروع [...] إن بلوغ هذا الهدف – استنساخ ذرية جديدة – قد يدعو إلى الفزع حقا". وفي هذا الصدد أيضا يرى"د.كاريتش" أن مؤيدي هذا المشروع ينتهكون المعايير التي قامت عليها الحضارات الإنسانية بمختلف مشاربها، وأنصاره يحاولون عبثا استخدام التقنية بغرض طرد الموت أو تأجيله إن تعذر طرده، موضحا أن الأديان بالفعل تؤكد على وجود الخلود، ولكن الوصول إليه يكون عبر الموت.كما أنه إذا كان التجريب يقوم على مبدأ تكرار الحادثة، فإنه يستند في نفس الوقت إلى مبدأ آخر وهو الحتمية التي تعني أن نفس الشروط تؤدي إلى نفس النتائج. فلقد بينت الدراسات التي قام بها العلماء صعوبة القول بحتمية مطلقة، بل أن نتائج هذه الدراسات تتعارض والقول بالحتمية، فالظاهرة البيولوجية هنا لا تضبطها أية ضرورة بل تسير وفق نوع من التلقائية والعفوية الحرة. وهو ما دفع البعض إلى التسليم بأن هناك قوة حيوية تحرك سائر حوادث (ظواهر) الحياة وتخضعها لنظامها الحر. ولعل هذا ما يقصده الغائيون أمثال "لاشوليي" في إقرارهم بتعذر الدراسة التجريبية للظاهرة الحيوية، لأنها ليست نتيجة تفاعل كيميائي أعمى يتم بين عناصر جامدة فقط في ظل شروط خاصة، بل هذا التفاعل يقصد الى غاية. وعليه فإن فهم الظاهرة البيولوجية فهما سليما يكون بردها إلى الغايات التي وجدت من أجلها. ومن ثمة فالقوانين الفيزيائية والكيميائية لا تكفي لتفسير التكامل والانسجام بين الأعضاء التي تقوم بوظيفة ما، الشيء الذي يستدعي على حد تعبير "برغسون" افتراض أن هناك مبدأ حيويا وقوة اختراع وابتكار خاصة بالطبيعة التي تتجلى في الأجهزة المسؤولة عن استمرار الكائن الحي.
النقد: لكن ورغم وجاهة الاعتراضات الموجهة للمنهج التجريبي، نظرا للصعوبات التي تعترضه في ميدان البيولوجيا، فإنه ينبغي الاعتراف بحقيقة هامة وهي: إما أن نقول ليس هناك حتمية في ظواهر الحياة بالمعنى العلمي الضيق لمفهوم الحتمية الشيء الذي يجعلنا ننفي البيولوجيا التجريبية، وهو أمر غير ممكن نظرا للتطورات الهائلة والسريعة التي ما فتئت البيولوجيا تحققها. وإما أن نقول أن القوة الحيوية يمكن دراستها بمنهاج خاص يراعي خصوصية العضوية الحية. خاصة وقد أبانت الدراسات المتصلة بالميكرو فيزياء ضرورة تجاوز تصوراتنا الكلاسيكية عن مفاهيم الملاحظة والتجريب والحتمية والقانون والموضوعية. وبالتالي إمكانية تكييف خطوات المنهج التجريبي مع طبيعة المادة المدروسة. أما التفسير الغائي الذي أشرنا إليه سابقا فلقد بدأ يحتضر ويضيق مجال انتشاره أمام الاكتشافات العلمية المتلاحقة. فتطور العلوم أثبت الطابع الميتافيزيقي لهذا التفسير الغائي الذي يرى أن الظاهرة البيولوجية فريدة من نوعها، لأنها تشمل على عنصر فوق طبيعي أو ما ورائي هو القوة الحيوية. وعليه يمكننا القول أن تلك العوائق والتي يتحجج بها أنصار الاتجاه الغائي وبقدر ما ساهمت في تأخر البيولوجيا وبروزها كعلم يضاهي علوم المادة الجامدة، إلا أنها كانت حافزا للعلماء على البحث والعمل من أجل تجاوزها.
نقيض الأطروحة(الموقف الثاني):
لهذا نجد في المقابل البيولوجيون من ذوي النزعة الآلية يرفضون التفسير الغائي جملة وتفصيلا. ويؤكدون على إمكانية تطبيق المنهج التجريبي على الظاهرة البيولوجية على غرار المادة الجامدة. وبالتالي الإقرار بوجود بيولوجيا تجريبية. فمن خلال كتابه (مدخل لدراسة الطب التجريبي) مهد "كلود برنارد" الطريق أمام إمكانية الدراسة التجريبية للكائن الحي، مؤكدا على أن ما يصدق من أساليب تجريبية على المادة الجامدة يصدق بالضرورة على المادة الحية وذلك لأن: * العضوية الحية تتكون من نفس العناصر الكيميائية المكونة للمادة الجامدة (أملاح، ماء، معادن..) وإن كانت بنسب متفاوتة. * وأن الوظائف الحيوية (النمو، التغذية، التكاثر، التنفس....) ليست سوى تفاعلات تحركها آليات تخضع لنظام محكم يمكن تفسيره علميا بالاستناد الى التجربة وكذلك مبدأ الحتمية الذي يؤكد أن نفس الأسباب تؤدي الى نفس النتائج...، وهناك أمثلة كثير يقدمها "كلود برنارد" من بينها تجربة الأرانب. حينما أوتي له بأرانب من السوق، فلاحظ أن بولها صاف حامض.
والمعروف أن بول آكلة العشب عكر وقاعدي، وبول آكلة اللحم صاف وحامض. فافترض أن تكون شروط تغذية هذه الأرانب تشبه شروط تغذية آكلة اللحوم، وأنها صائمة (لم تأكل العشب منذ مدة) وهو ما يبرر لون بول الأرانب. قام بالتجربة حيث أعطى هذه الأرانب عشبا، وبعد ساعات قليلة أصبح بولها عكرا وقاعديا. ثم منع عنها العشب (صومها)، بعد ساعات عاد بولها ليصبح صافيا وحامضا. وكرر التجربة عدة مرات فكانت تعطيه نفس النتائج. وعندئذ صاغ هذه النتائج في قاعدة عامة وهي: أن آكلة العشب إذا فرغت بطونها تغذت بالمواد المدخرة في جسمها. ولذلك يعد "كلود برنار" من أبرز العلماء الذين ساهموا في تطبيق المنهج التجريبي على العضوية الحية، وعرف كيف يسخر هذا المنهج الذي وضع خصيصا لدراسة المادة الجامدة ويكيفه في دراسة المادة الحية مع حفاظه على خصوصية هذه المادة. ورأى أنه إذا لم نتمكن من اكتشاف قوانين المادة الخام إلا بالتغلغل في الأجسام، فإننا لا نستطيع الوصول إلى معرفة قوانين وخصائص المادة الحية إلا بتفكيك العضويات الحية للنفوذ في دواخلها. يقول "كلود برنار": "لا بد لعلم البيولوجيا أن يأخذ المنهج التجريبي من العلوم الفيزيائية والكيميائية ولكن مع الاحتفاظ بحوادثه الخاصة". كما يؤكد الآليون أيضا على أن عمل أعضاء الكائن الحي يخضع لشروط ميكانيكية خالصة، فالتنفس والهضم مثلا ليسا إلا تفاعلين كيميائيين (التنفس مثلا عبارة عن أكسدة)، وصدق "هارفي" حين شبه آلية العمل التي يقوم بها القلب في الدورة الدموية بالمضخة الاصطناعية أو النافورة المائية. إن التصور الآلي لظاهرة الحياة هو الذي دفع "توماس هوبز" الى القول بأن الكائنات الحية ما هي إلا آلات حية. وكان "باسكال" بدوره يؤكد دوما هذه الحقيقة في قوله: "إن الكائن الحي آلة من طراز خاص". فلا يوجد فرق بين ما يحدث داخل جسم الكائن الحي وما يحدث في المختبر. ومن جهته استطاع "لويس باستور" إبطال الفكرة القائلة بالنشوء العشوائي للجراثيم، انطلاقا من كون أن لكل ظاهرة سبب يؤدي الى حدوثها. وتمكن بفضل ذلك من محاربة الجمرة الخبيثة التي كانت تصيب الماشية. هذا بالإضافة الى تجارب التهديم من خلال استئصال وقطع الأعضاء(بتر أعضاء من الجسم، استئصال الأورام...)، وكذلك تجارب زرع الأعضاء(الكلية، الكبد..) والتهجين والاستنساخ (حيث تعود بدايات عمليات الاستنساخ الى خمسينيات القرن الماضي حيث تم استنساخ أول كائن حي وهي صغار الضفادع. أما أول حيوان لبون تم استنساخه فهي النعجة الشهيرة دولي...) وغيرها مما انتهى إليه علماء الفيزيولوجيا المعاصرة وعلماء الميكروبيولوجيا من نتائج علمية دقيقة تبرر إمكانية التجريب في البيولوجيا (خاصة ما تعلق منها بالهندسة الوراثية).
النقد: لا يمكننا أن ننكر فضل الأعمال العلمية التي قدمها "كلود برنارد" في نشأة وتطور البيولوجيا، ولا يمكننا أن نتجاهل النجاحات المتميزة في هذا المجال. إلا أن هناك عمليات ونشاطات بيولوجية مختلفة، استعصى على الآليين تفسيرها ذلك أنه بقدر ما ينكشف لنا مدى تعقيد تركيب هذه الكائنات بقدر ما تزداد صعوبة إرجاع خصائصها الى مجرد قوى ميكانيكية. فالعلم ليس بإمكانه كما يزعم الآليون أن يفسر الحياة تفسيرا آليا مثلما يفسر المادة الجامدة. كما أن العديد من العوائق والصعوبات لا تزال قائمة خاصة فيما يتعلق بالعائق الأخلاقي والديني (الاستنساخ نموذجا). بالإضافة الى صعوبة تعميم النتائج فالعديد منها إن لم نقل جلها تقام على الحيوانات (الفئران، الأرانب، القردة...) لتعمم بعد ذلك على الانسان. فما يصدق ويصلح للحيوان ليس بالضرورة يمكننا تعميمه على الانسان. وهنا يجد البيولوجي نفسه أمام عائق آخر ألا وهو عائق التصنيف. زيادة على ذلك ومما لا شك فيه أن نتائج الدراسة التجريبية على المادة الجامدة ليست يقينية (نتيجة اعتمادها على الاستقراء الناقص) وبالتالي فاستخدام هذا المنهج دون حذر على الانسان يعتبر نوعا من المغامرة بحياة الكائن الحي الواجب المحافظة عليه.
التركيب:
إذن وتجاوزا لتعصب كلا الموقفين من الغائيين أو الآليين يمكننا القول بأنه يمكن استخدام التجربة في البيولوجيا مع وجوب مراعاة خصوصية الظاهرة الحية، باعتبارها حية ومعقدة، تطرح مشكلة خصوصية التفسير البيولوجي وبالتالي خصوصية المنهج المتبع في البيولوجيا. فالملاحظ أن المذهب الآلي فيه الكثير من المغالاة في تفسيره الحياة تفسيرا آليا يخضع لشروط فيزيائية كيميائية خالصة، وأن المذهب الغائي في تصور النظرية العضوية لا قيمة له من الوجهة العلمية، لأنه يفترض وجود قوة حيوية يستحيل إثباتها، وهو ما يضفي طابعا ميتافيزيقيا على التفسير العلمي للظاهرة البيولوجية.......
..