العلاقة بين الدال والمدلول
نص السؤال: هل العلاقة بين الدال والمدلول علاقة طبيعية أم اعتباطية؟
المقال:
الإنسان يتفوق على الحيوان باللغة، لهذا قيل: الإنسان حيوان متكلم، ولقد عرفت اللغة بأنها "ما يعبر به كل قوم عن أغراضهم"، وهي "جملة أو نسق من الإشارات والرموز التي يمكن أن تكون وسيلة للتواصل" كما عرفها لالاند في موسوعته، هذا ما جعل الفيلسوف الفرنسي غسدروف يعتبرها – أي اللغة – الشرط الأساسي للدخول إلى المجتمع الإنساني، فهي مكتسبة عن طريق التعلم وليست موروثا بيولوجيا، بل تراث اجتماعي ينتقل من جيل إلى آخر، وبما أن اللغة مجموعة من الرموز والإشارات فإنها تحتوي على الدلالة، وهي العلاقة الذهنية القائمة بين الدال والمدلول، أي أن جوهر اللغة يعبر عن ثنائية تتحدد فيها الصورة اللفظية (الصوتية) وهي ما يعرف بالدال، بما يقابلها في الذهن وهو المدلول، ولقد وقع خلاف وجدال بين علماء اللغة والفلاسفة، حول تحديد طبيعة العلاقة بين الدال والمدلول، فمنهم من رأى أنها ضرورية طبيعية، ومنهم من يعتقد بأنها اعتباطية اصطلاحية غير ضرورية. من هنا حق لنا أن نتساءل: ما علاقة الدال بالمدلول؟ هل هي علاقة ضرورية أم أنها تحكمية تعسفية؟
* اعتقد القدماء أن العلاقة بين اللفظ والمعنى هي علاقة تطابقية ضرورية وليست مجازا أو خيارا، وأساس هذه الفكرة نظرية المحاكاة عند أفلاطون (ت 347 ق م) الذي عبر عن رأيه في محاورة كراتيل، حيث رأى أن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة مادية تحاكي الكلمات فيها أصواتا طبيعية، فلكل وجود اسم يضمه بطبيعته، فإما أنه متضمن في صورته أو صوته أو أحد أعراضه كاللون مثلا، إذ يكفي سماع الكلمة لمعرفة دلالتها مثل: خرير الماء، حفيف الأغصان، نقيق الضفادع، مواء القطط.
ولقد اعتمد أنصار هذه الأطروحة على العديد من الأدلة أهمها:
*أن الألفاظ تطابق ما تدل عليه في العالم الخارجي، فالعلاقة بين الكلمات ومعانيها هي علاقة مادية تحاكي فيها الكلمات أصوات الطبيعة.
*أن ذهن الإنسان لا يقبل الأصوات التي لا تحمل تمثلا (أو شيئا) يمكن معرفته، أي المجهولة، وفي هذا يقول بنفنيست: " إن العلاقة بين الدال والمدلول ليست اعتباطية بل هي على عكس ذلك علاقة ضرورية ".
*اعتبر بعض اللغويين المعاصرين أمثال (إميل بنفنيست) أن الحروف لها معان خاصة، فإيقاع الصوت أو جرس الكلمة يوحي بمعناها. فحرف الحاء (ح) يدل مثلا على الانبساط والسعة والسرور كما في كلمة: حنان، حب، حياة..، أما حرف الغين (غ) فيدل على الظلمة والحزن مثل: غبن، غدر، غم...
*بالإضافة إلى هذا فاللغة قبل تطورها إلى المستوى المجرد كانت حسية مع الحياة البدائية، حيث كانت تعطى كلمات خاصة بكل ظاهرة وكانت اللغة عبارة عن مقاطع صوتية قبل ظهور النحو.
إذن فالعلاقة بين الدال والمدلول علاقة طبيعية ضرورية.
حقيقة هناك بعض الألفاظ تحقق التطابق بين الدال والمدلول، لكن القول بالعلاقة الضرورية مبالغ فيه، وفيه تشكيك في قدرة الإنسان على الإبداع ووضع الرموز والإشارات، فكيف نفسر تحديدنا للمفاهيم المجردة غير المادية كالعدالة والحرية...، كما أن اللغة أبدعها الإنسان للتواصل لا لمحاكاة الطبيعة، بالإضافة إلى أن العلامة اللسانية لا توحد بين اسم وشيء بل بين مفهوم وصورة سمعية، كذلك لو كانت العلاقة ضرورية لكانت للإنسانية لغة واحدة يتواصلون بها.
لهذا ظهر موقف آخر يتجه أنصاره إلى القول بان العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية عفوية من صنع الإنسان، فهو الذي عمل على ابتكار ووضع الرموز والإشارات لتحديد مختلف الأشياء للتعبير والتواصل. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه جون بياجي، إرنست كاسيير، ابن جني..ولقد اعتمدوا على أدلة وحجج لتبرير موقفهم أهمها:
* لأن العلامة اللسانية لا توحد بين الأسماء والأشياء وان الربط بينهما مبني على التعسف.
*بما انه لا توجد علاقة ضرورية بين الأسماء والمسميات فهي ناتجة عن التواضع الذي أقره الاستعمال، وفي هذا يقول إرنست كاسيير: " إن الأسماء الواردة في الكلام الإنساني لم توضع لتشير إلى أشياء مادية، بل على كيانات مستقلة بذاتها ". أي وضعت لتدل على معاني وأفكار لا وجود لها في الواقع. فالإشارات والرموز والكلمات والأصوات لا تحمل معنى معينا إلا ما اصطلح عليه المجتمع. مثال ذلك: كلمة تلميذ فهي تتابع للأصوات التالية: (ت، ل، م، ي، ذ) وهذا هو الدال، أما المدلول فهو معنى (التلميذ) لذلك لا توجد ضرورة بينهما بل تم اقتراحها دون مبرر وهذا ما يسمى بالتواضعية الاعتباطية أو التحكمية (التعسفية).
*كذلك (حجة أخرى) فنفس المعنى (كلمة تلميذ) نعبر عنها بعدة لغات وأصوات مثلا: في الفرنسية élève، وفي الانجليزية pupil فلو كانت ضرورية لما تباينت الأصوات، ولما تعددت اللغات بين المجتمعات، حيث يقول جون بياجي: " إن تعدد اللغات نفسه يؤكد بديهيا الميزة الاصطلاحية للإشارة اللفظية ".
*بالإضافة إلى حجة واقعية: فواقع المجتمعات يدل على أن الناس يستعملون اللفظ الواحد بمعان مختلفة مثال: الأسد (حيوان، القوة، الشجاعة..).
رغم ما قدمه أنصار هذا الموقف من أدلة وحجج مختلفة إلا أنهم تعرضوا لانتقادات لما حواه موقفهم من نقائص أهمها:
*أن هذه العلاقة الاعتباطية لا تعني أن الإنسان له مطلق الحرية في وضع العلامات (الإشارات) واستعمالها حسب هواه، بل يجب عليه التقيد بالاستعمال الاجتماعي، كما أن الواقع أيضا يؤكد وجود تناسب بين الأشياء والأسماء في الكثير من الأحيان.
تجاوزا للسلبيات والانتقادات الموجهة للفريقين ظهر موقف آخر يركب بينهما وهو الذي يرى أنصاره بأن العلاقة بين الدال والمدلول أحيانا ضرورية وأحيانا غير ضرورية، لأن علماء اللغة في العصر الحديث أكدوا بان بض المسميات تقتضي الارتباط الضروري بالألفاظ الموضوعة لها، كما أن هناك أشياء أخرى لها عدة مسميات وألفاظ داخل اللغة الواحدة مثال: أسد، ليث، ضرغام...وهذا يؤكد العلاقة غير الضرورية بينهما.
كما أن استقراء أصل اللغة عند العلماء بين أن المنطلق كان طبيعيا وهذا ما يثبت العلاقة الطبيعية، ولكن تطورت اللغة من الطابع البدائي إلى الطابع الاصطلاحي التواضعي ومثال ذلك: أن الطفل الصغير في مراحله الأولى يعتقد أن الأشياء ترتبط بأسمائها ارتباطا ضروريا، وكلما تقدم في السن يبدأ في عملية التحرر من اللغة الطبيعية إلى اللغة الاصطلاحية حتى قيل: "إن العلاقة بين وحدتي العلامة اللسانية علاقة ضرورية ".
إذن نستنتج أن العلاقة بين الدال والمدلول ليست ضرورية دائما بل هي اصطلاحية أيضا فالواقع والتاريخ يثبتان وجود نقطة بدء تتمثل في وجود لغة طبيعية، لكن ارتباط الفرد بالجماعة وتعقد حالته استلزمت منه الاصطلاح والتواضع مثال: الاحمرار يدل على الخجل لكن قد يستخدم الإنسان ألفاظا تدل على ذلك لهذا قيل: "أن اللغة نسيج من المحاكاة لأصوات الطبيعة والمواضعة الرمزية في آن واحد ".